حمزة المصطفىصفحات سورية

موت إنسان الإنسية: حلب تحترق/ حمزة المصطفى

 

 

اشتق مصطلح “الإنساني” أو “الإنسي” “Humaniste”، بالأساس، في اللغات الهندو-أوروبية منذ القرن السادس عشر، وبالتحديد عام 1539. أما كلمة “النزعة الإنسانية” على هيئة الاسم أو المصدر “Humânisme” فلم تبرز إلا في القرن التاسع عشر. ومراد كلمة “هيومانيزم”، ومبتغاها الأسمى هو تعشق المثل العليا للكمال الإنساني، في شتى مناحيه الحياتية والأخلاقية والجمالية والسياسية والاجتماعية. كان هدف الإنسيين إحياء التراث اليوناني والروماني القديم، عن طريق تحقيق النصوص القديمة، بغية تجاوز عقلية العصر الوسيط ومتعلقاتها المرتبطة بمكانة الإنسان ودوره. وبناء عليه، امتازت النزعة الإنسانية بمنحى تفاؤلي شديد عن الإنسان، وتصوّرت الكون تصوراً واعدًا عامراً بالأنوار، واعتمدت الإنسان مقياساً لكل شيء، بحكم أنه المخلوق المتميّز المحقق إرادة الرّب على وجه الأرض، وذلك بفضل النعمة الإلهية المتمثلة في العقل.

نجحت النزعة الإنسية في أن تمثل أخلاق النبل الإنسي الممجّد لقيم الإبداع ومواجهة قوة الطبيعة الميّتة بالقوة الحيّة للإنسان، عن طريق الاتساق الصارم والمنهج لكل الطاقات الإنسانية. وقد قامت هذه النزعة بما يمكن أن نطلق عليها الثورة على التفكير اللاهوتي، بكل ما انطوى عليه من واقع إذلال للإنسان، أو قيمته، مع أنها كانت مسيحية الطابع، وتنادي بأن يبصر الفرد نفسه ويتمثلها في ضوء الله. ومع أن آمالاً كبيرة عقدت عليها، للنهوض بالتفكير الإنساني، ونقله إلى مرتبة أسمى، وأكثر شموليّة، فإن تطورات القرن العشرين مثلت صدمةً كبيرةً للنزعة الإنسية التفاؤلية، وهو ما دفع فلاسفة ومفكرين إلى اعتبار القرن المنصرم قرن الإعلان عن “موت الإنسان”. ونكاد نجزم بأن تياراً فكرياً واسعاً هو الذي بادر بهذا الإقرار، وفلسفته في ذلك أن إرادة الإنسان أصبحت مشلولة تماماً، وأن التاريخ أصبح آلية تتحرك، من دون توجيه، وتحكم من منظومةٍ بائسة أحدثها التطور التقني الكبير. ضمن هذا السياق، رأى ميشال فوكو أن الإنسان المعاصر ما هو إلا إنسان منفي، وتتجسّد عملية نفيه في إفراغه من بعض فحوى حياته المعنوية والنفسية، وكذلك تجريده من الخصال التي تكوّن وجوده وتحقق ماهيته. وبما أن الإنسان “كلٌ لا يتجزأ” فإن نفي بعض المكونات هو، في نهاية الأمر، موت لهذا الكائن الذي يسمى “الإنسان”.

“يتفرّج العالم، الآن، بتشفٍّ على حاضرة إنسانية تحترق أمام عينيه، في مشهدٍ يعيد صور الحرب العالمية الثانية”

تأسيساً على ما سبق، وجد ميشيل فوكو الطريق معبدًا لكي يقول بـ”موت الإنسان”، عندما صرّح بأن الإنسان هو مجرد اختراع حديث العهد، ومجرد انعطافٍ في المعرفة، وتنبأ باختفائه لما تتخذ هذه المعرفة شكلًا جديدًا. وفي السياق نفسه، نجده يقول: “الإنسان يحيا ويرغب، يعمل ويتبادل، يتكلم ويرمز. ولمّا حاول هذا الإنسان أن يطبق على نفسه ما طبقه على الكائنات والأشياء، أي أن يتصوّر قوانين رغباته، وشكل اجتماعه، وقواعد عمله، ولعب أطفاله، ورموزه، لم يكد يعثر على نفسه”. والمثير، هنا، أن الإنسان الذي يتحدث عنه ميشال فوكو ويسميه بالموات، هو ذلك الإنسان الواعي والمسؤول والمالك الذي يترك بصمته في الوجود، إنسان الطموح والحقوق والواجبات. وربما من الأسباب التي عجّلت باختفائه وقوعه ضحية الأوهام وسقوط تلك الصورة الجميلة التي كان يحملها عن نفسه، وارتسام صورة جديدة قبيحة ومنفّرة، لكنها صورته الحقيقية.

أضحت الصورة القبيحة للإنسان عن نفسه تتمثل، في مناسبات كبيرةٍ لا تعد ولا تحصى، في تفاعلات عالمنا المعاصر. خذ، مثلاً، قانون تنظيم اقتناء السلاح في الولايات المتحدة، والذي احتدم الجدل بشأنه أخيراً. فعلى الرغم من ازدياد الضحايا وانتشار السلاح في يد القاصرين، فإن لوبي السلاح في الولايات المتحدة تغلب على جميع النداءات الإنسانية، سواء التي أطلقتها المنظمات المدنية المعنية بالأمر، أو خطة الرئيس الأميركي، باراك أوباما، لتقنين اقتناء السلاح والحد من انتشاره. أضف إلى ذلك، أن مراجعات القرن العشرين للحروب العالمية والصراعات الإقليمية والحروب الأهلية لم تجد نفعاً في إيجاد موطئ قدم لحقوق الإنسان أمام المصالح. وتمثل الأزمة السوريّة باعتبارها أكبر أزمة إنسانية في القرن الواحد والعشرين دليلاً آخر على موت الإنسان، إذ لم يشفع لشعب قُتل منه ما يزيد عن 300 ألف، عدا عن الجرحى والمقعدين، ودمر له نحو 400 ألف منزل، وشرّد نصفه في دول الجوار وأوروبا، تطلعه إلى حياةٍ كريمةٍ بلا ظلم أو قهر. وبدل تضميد جراحه، يتفرّج العالم، الآن، بتشفٍّ على حاضرة إنسانية تحترق أمام عينيه، في مشهدٍ يعيد صور الحرب العالمية الثانية. وبذلك، أضحت الإنسانية مستمتعة بالتفرّج على انقراض الشعب السوري، بكل ما لمفردة “انقراض” من معنى.

العربي الجديد

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى