موت “البعث” ونجاة إرثه/ حسام عيتاني
ظهر حزب البعث العربي الاشتراكي إلى العلن في مثل هذه الأيام، قبل 67 عاماً في سوريا. بعد عام تقريباً وقعت نكبة فلسطين التي صارت “قضية مركزية” عند “البعث” لم يمل يوماً من استغلالها وتوظيفها في صراعاته ومساعيه الدائمة إلى الحفاظ على السلطة في دمشق وبغداد.
تأسس الحزب على شاكلة ومثال الأحزاب التي سبقته في المشرق العربي وهذه بدورها نسخت أيديولوجيات وتنظيم الأحزاب الأوروبية، خصوصاً في مرحلة ما قبل الحرب العالمية الثانية. ثمة أيديولوجيا خلاصية تعالج الأزمات بمختلف مظاهرها، وتجد حلولاً جذرية ونهائية لها، ترجع هذه الأيديولوجيا بحسب دعاتها، إلى أعمق مكونات الشعب وأصوله الطبقية او العرقية. بهذا المعنى، لا فرق كبيراً بين توجهات الأحزاب “العقائدية” في المشرق العربي وبين ما ساد الأوساط السياسية والفكرية في أوروبا بين منتصف القرن التاسع عشر وبداية الحرب الباردة.
وعلى كثرة المفارقات في تاريخ “البعث” التي ربما لا يتسع المجال هنا لعرضها، من توجهه إلى الأمة العربية الواحدة إلى انقلابه ستاراً لإمساك الأقليات بالسلطة في العراق وسوريا، ومن دعوته إلى تحرير فلسطين إلى محاولة فرضه خياراته الخاصة على الفلسطينيين بهدف استخدام القضية الفلسطينية كغطاء يشرعن به حكمه وتحول الحزبين الحاكمين في بغداد ودمشق اللذين يفترض أنهما ينتميان إلى فكر واحد، ويحملان همّاً مشتركا تقع الوحدة في رأس أولوياته إلى رمز للانقسام العربي وصراعات المحاور، وغير ذلك الكثير، تجوز الإشارة إلى مفارقة جديدة بدأت مع تعفن نظام صدام حسين في التسعينات من القرن الماضي مروراً بسقوطه على أيدي قوات الاحتلال الأمريكي، ووصولاً إلى تهرؤ النظام البعثي الآخر في دمشق وظهور استحالة ترميمه وإنعاشه ودخول دولته في حالة موت سريري.
تكمن المفارقة في وقوف البعث، بنسختيه الصدامية والأسدية، ومنذ أمد بعيد، ضد التطلعات الأبسط للشعبين في “القطرين الشقيقين” (وللشعبين اللبناني والفلسطيني استطراداً بسبب طغيان النفوذ السوري، في الدرجة الأولى على لبنان وعلى الكثير من القوى الفلسطينية)، في التقدم والتحرر والتعبير عن الذات. ولم تكن تجارب “البعث” في السلطة منذ لجوئه إلى الانقلابات العسكرية وسيلة وحيدة للوصول إلى السلطة، غير سلسلة طويلة من الحروب الأهلية المعلنة والمستترة، الملتهبة والباردة، أفضت في نهاية المطاف إلى فتح الطريق امام انهيار الدولة والمجتمع وبالتالي أزالت العوائق أمام الاحتلال الأمريكي في العراق والحرب الأهلية المستعرة في سوريا، ثم أمام النفوذ الإيراني غير القابل للمساءلة في البلدين وفي لبنان.
لم يرَ عسكريو “البعث” غير القوة والقمع والعصبية العائلية والطائفية وتعميم نهب الثروات الوطنية، وسائل لتأبيد السلطة بين أيديهم. ابتذلوا معنى القضية الفلسطينية بعدما فرغوا شعارات “الوحدة والحرية والاشتراكية” من معانيها التي كانت لها يوماً، أو ما افترض عدد كبير من مواطني دول المشرق انه كذلك. فاقموا مشكلات الهوية والدولة الوطنية والأقليات الدينية والعرقية وأوصلوها كلها إلى الانفجار الشامل الذي نشهده اليوم وربطوا اقتصاد البلاد بآليات الفساد والاستهلاك والعداء للإنتاج بكل أشكاله ودمروا براعم المؤسسات العلمية الواعدة جاعلين من الشهادة الجامعية أو التحصيل الاكاديمي مهزلة بين مهازل كثيرة أخرى.
جليّ أن السلوك هذا لم ينشأ من فراغ، ولم يكن برقاً في سماء صافية. كانت الأرضية في المنطقة ما بعد العثمانية، إذا جاز التعبير، مهيأة منذ إخفاق مشروع الدولة العربية التي حاول الملك فيصل ووالده الشريف حسين إقامتها هنا على أنقاض السلطنة، من دون أخذ في الاعتبار عمق التحولات التي تكرست في القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين وجعلت من المحال استبدال خليفة بخليفة وردم الفوارق بين مكونات هذه المنطقة الاقتصادية والطائفية والثقافية، ردماً إرادوياً من دون علاج حقيقي لأسباب نشوئها وتطورها. ولم يفعل الاستعمار غير تأجيل الانفجار الذي بدأت ملامحه تبرز بعيد الاستقلال السوري وانتهاء الاحتلال العسكري البريطاني المباشر للعراق.
وفي الوسع اليوم بعد إفلاس “البعث” بكل تلاونيه، قراءة تاريخه باعتباره تاريخ الصراعات الداخلية بتجلياتها الاجتماعية والثقافية والسياسية المختلفة، وهي تنتقل إلى وحدات أصغر فأصغر، وصولاً إلى صراعات بين أبناء الطائفة الواحدة والعائلة الواحدة، كما حصل مع صدام حسين وحافظ الأسد ووريثه بشار، وصولاً إلى تدمير كل ما من يشبه ولو شبهاً بعيداً أسس الدولة والمجتمع المدني واغتيال كل ممارسة للسياسة بالمعنى الذي تعارف العالم الحديث عليه.
ويجوز اليوم الحديث عن نهاية “البعث” كسلطة وأنظمة لكن الإرث الذي تركته تلك الأعوام ما زال صامداً ومزدهراً في ثقافات ومفاهيم وممارسات “نخب” جديدة تنهل من ذات المنهل السامّ.
موقع 24