صفحات الثقافة

موت بالأبيض والأسود/ شوقي بزيع

ليس أشق على اللغة من أن تمتحن في ظروف بالغة القسوة كتلك التي يعيشها الشعب السوري منذ سنتين ونصف، حيث الموت سيد الموقف والكابوس لا يكف عن تجديد صورته كلما آنست إلى تراجع أو ذبول. صحيح أن قدراً من الحزن والمكابدة ضروري أحياناً لإخراج اللغة من حذلقة الصنعة وبرودة التأليف، لكن الأمر يختلف تماماً حين يصل الهول إلى تخومه القصوى ويتحول الزمن إلى عداد آلي لأرقام الموتى التي لا تكف عن التصاعد. ثمة شيء في هذه الكارثة لا تطاوله الكلمات. شيء يصيب اللغة بالخرس والحشرجة، والمفردات ببطلان الدلالة. شيء لا يتم التعبير عنه إلا بدقات القلب وارتجاف الروح وجحوظ العينين وانكماش الجسد على نفسه درءاً للمزيد من الرعب ولمخالب الهلاك الزاحفة.

لم يكن شعب سوريا المكتوم الصوت والمكبّل بأغلاله منذ عقود ساذجاً بالطبع إلى حد الاعتقاد بأن ثمن الحرية ليس مكلفاً بما فيه الكفاية، أو الاعتقاد بأن استرداده لكرامته المهدورة هو شأن يمكن توفيره بالمجان. لكنه كان يحسب أن «ربيعه» المرتقب سيكون موائماً وموازياً في كلفته لغيره من الشعوب الشقيقة، وسائر شعوب هذا الكوكب. ولم يكن يظن أن درعا وحمص وتل كلخ وحلب والقصير، وغيرها من المدن والقرى، ستتحول إلى خط تماس دولي بين لاعبين كبار قرروا فجأة أن الدم السوري سيحدد مصير الأرض وأسعار النفط والغاز، وسيرسم خريطة العالم وتوازناته لعقود مقبلة. لقد اختبر السوريون في محنتهم كل ما يمكن للمخيلة أن تطاوله من وسائل القتل والعنف وقهر إرادة الشعب للحياة. بات مشهد الموت في سوريا يتجاوز التمثلات التشكيلية التي تخلط الواقعي بالرمزي في «غرنيكا» بيكاسو، ليلامس السوريالية في تجلياتها الغامضة والغرائبية عند سلفادور دالي، بحيث لم يعد الجناس بين السوري والسوريالي مقتصراً على اللفظ وحده بل يتعداه إلى الفكرة والدلالة والمعنى.

أوليس سوريالياً أن لا تعود صورة الموت مقترنة بالجراح النازفة والدم المراق بل بالجسد الصحيح والكامل والخالي من أية شائبة؟. أوليس سوريالياً أن لا ترتبط صورة الموت بالأجساد الشائخة والجلود المتغضنة والأمعاء المبقورة، بل بالأجساد الأيقونية الغضة لأطفال ممددين جنباً إلى جنب في ردهات الاختبار الكيميائي لوأد الأحلام؟. ليس المشهد هنا ملائماً لعقد المقارنات المكررة بين الدماء وشقائق النعمان، ولا للإعلان بأن باب الحرية لا تقرعه سوى الأيادي المضرجة بالدماء، كما فعل أحمد شوقي، ولا لإقامة الدليل على العلاقة بين الفم الفاغر وجرح الضحية، كما اقترح الجواهري في إحدى قصائده. ذلك أن الموت هنا أشبه بقطف وردة في ريعان تفتحها، وأقرب إلى النعاس منه إلى أي شيء آخر. ولم يكن أمراً بلا دلالة أن يتم القتل عن طريق الاختناق وإزهاق الأنفاس ليس إلا. ذلك أن ما كان مطلوباً في الحياة هو نفسه ما بات مطلوباً في غيابها: قطع الهواء اللازم لكل صرخة احتجاج أو دعوة غير محمودة للحرية.

لا أعرف ما الذي كان سيفعله وليم شكسبير في مسرحيته المعروفة «تاجر البندقية» لو عاد ثانية إلى الحياة ووقف على فظاعة الموت السوري الكيميائي. ذلك أن المرابي اليهودي الجشع شايلوك، الذي خسر قضيته ضد مدينة البائس بسبب إغفاله لمسألة الدم التي لم يأخذها في الحسبان حين طالب بلحم خصمه، كان سيربح دعواه لو كان خصمه هذه المرة سورياً، ولم يكن ليأكل أصابعه من الندم كما فعل في النص الشكسبيري الأصلي.

على ان الاستتباعات اللبنانية للمشهد السوري لم تفض بأي حال إلا إلى تعديل طفيف في لون الصورة. صحيح أن بعض الدماء قد سالت في متفجرات الرويس وطرابلس، لكن الصحيح أيضاً أن بعض الجثث قد تفحمت تماماً بما لم يسمح لنقطة دم واحدة أن تسيل على أرض الكارثة. وبين الأجساد الناصعة البياض في الموت الكيميائي والأجساد البالغة السواد في موت السيارات المفخخة، يصبح الموت بالأبيض والأسود هو سيد الموقف، ويصبح الغراب وحده سيداً على المرحلة.

السفير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى