موسكو حول ‘الصراع′ الشيعي ـ السني: خصم وحكم؟: صبحي حديدي
صبحي حديدي
لعلّ ما يلفت الانتباه أكثر، في تصريحات فلاديمير بوتين الأخيرة حول سورية، ليس إقرار الرئيس الروسي بأنّ تفادي ‘الحرب’ في هذا البلد كان أمراً ممكناً لو أنّ بشار الأسد سارع إلى تلبية مطالب السوريين في التغيير وتنفيذ الإصلاحات؛ فهذا اعتراف متأخر، بمعدّل مئة ألف شهيد سوري على الأقلّ، وتشريد ملايين المواطنين في أربع رياح الأرض، وإلحاق الخراب العميم بالأرض والعمران والتاريخ، ودقّ إسفين طائفي خبيث ومذهبي بغيض في قلب الاجتماع الوطني السوري، واستقدام الغزاة الأجانب لاحتلال المزيد من الأرض السورية.
كذلك فإنّ اللافت، أكثر، ليس تأكيد بوتين بأنّ روسيا لا تلعب دور ‘المحامي’ عن الأسد أو نظامه، فهذه مراوغة مفضوحة تماماً، وهي أصلاً لم تعد جديرة بأي تدقيق في الحدود الدنيا لمصداقية القول إزاء الفعل.
ذلك لأنّ موسكو شريك مباشر في إراقة الدم السوري، سواء عبر توريد الأسلحة على اختلاف طاقاتها التدميرية، بما في ذلك السماح لجيش النظام باستخدام بعض أصناف الأسلحة الكيماوية؛ أو عبر تنشيط الخبراء العسكريين، والخلايا الأمنية الروسية، التي تشارك في العمليات بصفة يومية ومنهجية؛ أو، أخيراً، تعنّت الموقف الدبلوماسي الروسي في مجلس الأمن الدولي، واستخدام حقّ النقض لتعطيل أيّ قرار يمسّ النظام السوري.
والحال أنّ المتتبع لحزمة المواقف الروسية من الانتفاضة السورية لن يعدم تصريحات مماثلة، أو متطابقة تماماً، سبق أن أطلقها المسؤولون الروس على أعلى المستويات: ففي آذار (مارس) 2012، تحدث وزير الخارجية سيرغي لافروف عن ‘أخطاء القيادة السورية’، وأنّ ‘نظام الأسد اعتمد إصلاحات جيدة من شأنها تجديد النظام، والانفتاح على التعددية، ولكنّ ذلك تأخر كثيراً’؛ وفي مطلع هذا العام، رأى ديمتري مدفيديف، رئيس الوزراء، أنّ ‘الأسد أخطأ بإرجاء الإصلاحات السياسية’، واصفاً الخطأ ذاك بأنه كان ‘جسيماً’.
هذا إذا لم يهبط المرء إلى مستوى أدنى في الهرم السياسي الروسي، فيستذكر تصريحات نائب وزير الخارجية، ميخائيل بوغدانوف، في آب (أغسطس) الماضي، حول موافقة الأسد على التنحي، وتسريب معلومات عن إصابة ماهر الأسد خلال العملية التي استهدفت ‘خلية الأزمة’، وأنه ‘يصارع من أجل البقاء’.
ما يلفت الانتباه، في المقابل، هو ذلك الطراز الآخر من التأكيد، الذي تميّزت به تصريحات بوتين الأخيرة: أنّ موسكو لا تريد التدخل في العلاقات بين مختلف الطوائف في سورية’؛ ثمّ، على نحو أكثر وضوحاً وتخصيصاً: ‘لا نريد أن نتدخل في العلاقات بين الشيعة والسنّة’. الأرجح أنّ هذا هو التصريح الأوضح، وفي المستوى الأعلى، الذي يفيد اعتراف موسكو بوجود استقطاب ـ صراعيّ الطابع، سياسيّ قبل أن يكون مذهبياً، غنيّ عن القول ـ بين الشيعة والسنّة في سورية؛ وأنّ ‘الحرب’ التي يشهدها البلد منذ 27 شهراً (وكان في وسع الأسد أن يتفادى وقوعها، بحسب بوتين)، لا تدور بين ‘إرهابيين’ أو ‘جهاديين’ في جهة، وقوى ‘علمانية’ أو ‘بعثية’ في جهة أخرى؛ بل هي، أيضاً، بين شيعة وسنّة… وفقاً لقراءة موسكو!
وإذا لم يكن هذا الموقف جديداً على التفكير الروسي بصدد سورية، في مستوى التصريحات الرسمية الدبلوماسية والعلنية على الأقلّ، فإنه بمثابة تسفيه لموقف لافت بدوره، سبق أن أعرب عنه لافروف نفسه، في آذار (مارس) السنة الماضية؛ بل لعلّ تصريحات بوتين الأخيرة أقرب إلى مراجعة ذلك الموقف، وتسفيه آراء لافروف التي كانت تغطّيه وتُفلسف أسبابه. آنذاك، قال الأخير، في تصريح مباغت لإذاعة ‘كوميرسانت إف إم’ الروسية: ‘فى حال انهار النظام القائم في سورية، فسيغري هذا بعض بلدان المنطقة لإقامة نظام سنّي في البلد’؛ وهذا تطوّر يقلق موسكو كما بدا واضحاً، لأنه سوف ‘يؤثر على مصير المسيحيين والأكراد والعلويين والدروز، وهو الأمر الذى قد يمتد إلى لبنان والعراق’!
كان فاجعاً أن يبدو وزير خارجية قوّة كونية عظمى مثل روسيا ـ كانت لها صولات وجولات في العلاقات المميّزة مع العالمَين العربي والإسلامي خلال الأحقاب السوفييتية، وفي ميادين سياسية واستخباراتية وأكاديمية عريقة ـ على تلك الدرجة من الاستخفاف بالعقول، فضلاً عن خفّة المعلومات التاريخية والاجتماعية والدينية والمذهبية والإثنية التي تخصّ سورية، ومعها المنطقة بأسرها. وكان فاجعاً، أشدّ، أن يتبنى لافروف ذلك التفسير السطحي المبسّط، إذا لم يكن تسطيحياً أو تبسيطياً عن سابق قصد وتصميم، لانتفاضة شعبية ذات أهداف سياسية واجتماعية واقتصادية وفكرية وأخلاقية، لا صلة البتة تجمعها بأيّ مطلب ديني أو مذهبي أو إثني ضيّق ومحدود.
ولقد لاح جلياً أنّ لافروف يعيد إنتاج الخطاب الدعاوي ذاته الذي يصبّ في مصلحة النظام، وأنه استطراداً جاهل في شؤون سورية ذاتها، البلد والشعب والتاريخ؛ وفي مسائل ذات حساسية سياسية واجتماعية بالغة، مثل وضع المذاهب والطوائف والأقليات؛ وفارق أن لا تكون أقلية إثنية ما، أقلية دينية أو مذهبية أو طائفية بالضرورة، وبالاستطراد الآلي. مَن، على سبيل المثال الأوّل، أقنع لافروف أنّ الأكراد أقلية طائفية؟ وإذا كان هؤلاء، وأكراد سورية تحديداً، ينتمون إلى السنّة في أغلبيتهم الساحقة، فكيف يمكن أن تهددهم ‘دولة سنّية’، أو تؤثر على مصيرهم؟ وهل ثمة أي معنى ملموس، أصلاً، وراء هذا التعبير الأخير، الخاطىء والقاصر والركيك؟
ثمّ، في مثال ثانٍ، إذا كانت ‘دولة سنّية’ هي الشبح الآتي، الذي تخشى موسكو من تأثيره على ‘مصير المسيحيين والأكراد والعلويين والدروز′؛ فكيف تعامى لافروف عن حقيقة ديموغرافية كبرى، تفيد بأنّ السنّة في سورية يشكلون قرابة 70 بالمئة من السكان العرب، وقرابة 8 بالمئة من السكان الأكراد؛ الأمر الذي لا يصنّفهم في عداد الطائفة (كما هي حالهم في العراق أو في إيران، مثلاً)، لأنهم ببساطة أغلبية الشعب الساحقة؟ وسورية هذه، دولة ما قبل انقلاب حزب البعث سنة 1963، أو مجتمع ما قبل انقلاب حافظ الأسد سنة 1970 تحديداً، كيف استطاعت الحفاظ على توازنات اجتماعها الديني والمذهبي والطائفي والإثني، بل حوّلته إلى منبع ثراء مشترك واغتناء متبادل؟
وفي جانب آخر من المسألة، سياسي وأخلاقي، كيف تعذّر على خبراء وزارة الخارجية الروسية (إذْ لا حاجة، في هذا، إلى علماء اجتماع من العيار الثقيل)، أن يشرحوا للسيد الوزير تلك الحقيقة العتيقة البسيطة التي تقول إنّ التطلع إلى الحرّية والمستقبل الأفضل ليس موضوع اختلاف بين أديان السوريين وطوائفهم، بل هو هدف الإجماع الأعرض اليوم، مثلما كان محلّ اتفاق وتراضٍ في الماضي أيضاً؟ ما ليس أقلّ أهمية، في المقابل الذي يتوجب التأكيد عليه دائماً، هو أنّ النظام الحاكم ليس ابن طائفة واحدة منفردة، حتى إذا كانت إحدى ركائزه تقوم على تجييش محموم لطائفة بعينها، والإيحاء بتمثيلها، وتعهّد مصيرها، والعمل على زجّها قسراً في حرب البقاء التي يخوضها أهل النظام.
غير أنّ تصريح لافروف ذاك، ومن ورائه الموقف الروسي إزاء مخاطر مجيء ‘دولة سنّية’ بعد سقوط نظام آل الأسد، لم يأتِ في حينه على أيّ ذكر للشيعة، لا من قريب ولا من بعيد؛ ربما لاعتبار جوهري وبسيط بدوره، يفيد بأنّ وجود الشيعة في سورية ليس كبيراً، أو حتى ملموساً، بأيّ معنى يجيز لوزير الخارجية الروسي أن يضعهم في مصافّ ‘المسيحيين والأكراد والعلويين والدروز′. فما الذي تغيّر، اليوم، حتى يتحدّث الرئيس الروسي، بنفسه هذه المرّة، ليس عن خشية موسكو من ‘دولة سنّية’، بل عن رفضها التدخّل في ‘العلاقات بين الشيعة والسنّة’؟ هل تشيّع السوريون، خلال سنة أعقبت تصريح لافروف عن ‘دولة سنّية’، بأعداد ضخمة هائلة، وبمتواليات هندسية تبرّر لموسكو إدخالهم في معادلات صراع واستقطابات ثنائية، على غرار ما يقول بوتين؟
الجواب هو النفي، بالطبع، وما تغيّر على الأرض ـ ويدفع موسكو إلى اعتماد خطاب جديد، مخالف لذاك الذي كان معتمَداً قبل عام ـ هو أنّ دخول إيران/ ‘حزب الله’ في قلب المعادلة العسكرية لحرب النظام ضدّ الشعب السوري؛ كان، في جانب مذهبي وديموغرافي، بين الجوانب الأخرى الجيو ـ سياسية، بمثابة إدخال لعامل ‘صراع′ شيعي ـ سنّي طارىء، لم تعرفه سورية على مرّ تاريخها، ولم يكن البتة عنصراً تكوينياً في الحوافز الشعبية التي حرّكت الانتفاضة، قبل 27 شهراً. ورغم أنّ موسكو، بلسان بوتين شخصياً، تنفي رغبتها في الانحياز إلى أيّ من جانبَي هذا ‘الصراع′، أو التدخل فيه؛ إلا أنها عملياً ليست متورطة في إذكاء نيرانه عبر مواصلة تسليح النظام السوري، فحسب، بل تبدو وكأنها سلّمت مقاليد قيادته إلى طهران، واكتفت بما تخال أنه دور ظافر في كسر نظام القطبية الأحادية الأمريكية.
هي، ضمن تنويع آخر لا يقلّ هزالاً، تلعب دور الخصم والحَكَم في إدارة هذا ‘الصراع′: تارة تتناطح مع الغرب، حول مسألة غير قائمة فعلياً على الأرض (تسليح المعارضة السورية)، أو حول آفاق مؤتمر ‘جنيف ـ 2′ والإصرار على المشاركة الإيرانية فيه (من خلال توجيه دعوات شفهية، مثلاً!)، وتعهّد تشكيل وفود ‘المعارضة الداخلية’ السورية إلى المؤتمر؛ وتارة أخرى، في أداء دور الحَكَم، عبر التلميح إلى الحياد بين طوائف المجتمع السوري، أو الغمز الخفيف من قناة النظام السوري، أو الترهيب من الاحتمالات المدمّرة في حال فشل ‘جنيف ـ 2′ في التوصل إلى تسوية سلمية.
ليس هذا هو الأداء المنتظَر من قوّة كونية عظمى، وهو ليس الحكمة اللائقة بمصالحها على المدى القريب (فما بالك بذاك البعيد!)؛ في ضوء ما يمكن أن تجنيه موسكو من مغانم، لقاء الاستمرار في الوقوف الأعمى خلف نظام آخذ في التحلل والانهيار والتفكك؛ ولم يكن ينقصه سوى الاستعانة بقوى خارجية، بعد أن تبعثرت قوّاته الموالية وانقلبت إلى ميليشيات، طائفية التركيب، منفلتة العقال، تتولى نهب بيوت السوريين بعد أن ينجز ‘حزب الله’ اجتياحها.
وهكذا، كان التنظير لخرافة ‘الدولة السنّية’ قد أعاد الموقف الروسي إلى ما قبل انطلاقة الانتفاضة السورية، وها أنّ التنظير المستجدّ لخرافة ‘الصراع′ الشيعي ـ السنّي يجعل الحصّة الروسية، بالمقارنة مع تلك الإيرانية، في سورية مثل جوارها الإقليمي، واليوم كما في المستقبل؛ تكتفي من الغنيمة بما لا يزيد عن خفّيْ حنين!
‘ كاتب وباحث سوري يقيم في باريس