صفحات سوريةعمر قدور

موسم الهجرة إلى الثورة


عمر قدور

من ضمن عشرات الشهداء الذين يسقطون يومياً برصاص قوات الأمن نال مقتل الناشطيْن باسل شحادة وربيع غزي اهتماماً أكبر من مقتل آخرين قضوا في الأسبوع ذاته، وإذ لا ينكر المتابعون الأهمية نفسها للدم السوري الذي يُراق يومياً في سبيل الحرية فإن الاهتمام بهذين الناشطين هو اهتمام بما يمثّلانه أيضاً، وليس محض اهتمام بشخصيهما. باسل شحادة سينمائي شاب، ربيع غزي موسيقي شاب، الاثنان في العشرينات من عمريهما، لكن هذه المعلومات وحدها غير كافية ما لم نقل إن الاثنين عادا إلى سوريا للاشتراك في الثورة، في الوقت الذي تعني فيه العودة المخاطرة بالنفس، وربما لا تعني سوى شيء وحيد هو ملاقاة الموت.

ثمة سوريون ينتظرون سقوط النظام كي يعودوا إلى البلد؛ البعض منهم غادرها منذ زمن طويل قسراً، والبعض غادر بشكل شبه قسري أو شبه طوعي. ومن المؤسف أن الثورة السورية منذ بدايتها نزفت عدداً لا بأس به من الناشطين الذين اضطر بعضهم إلى مغادرة البلد تحت ضغط الملاحقة أو التهديد بالتصفية، ولا يخلو الأمر من هجرة للبعض الآخر بلا ضغوط فعلية جادة سوى ضغط القمع العام؛ المعيار هنا شخصي جداً ويتعلق بالقدرة الفردية على تحمل الضغوطات ليس إلا. المزاج العام السائد لا يتوقف عند هذه الفوارق، ولا ينحي باللائمة على أحد ممن غادروا، أو ممن ليسوا في وارد العودة الآن.

لكن عودة باسل وربيع وشباب آخرين من أجل الانخراط في الثورة تدلل على ما يفوق الحماسة العاطفية، هي عودة مبنية على إيمان واعٍ بمشروع التغيير، وتضع في حسبانها أشد السيناريوات سوءاً. وما نُشر عن توصية من باسل شحادة لامرأة عن كيفية التصرف فيما لو اعتقلت، يشير إلى أنه وضع نصب عينيه هذا المصير. أما تحركاته وسط أحياء محاصرة في مدينة حمص فهو أدرى من غيره بمقدار الخطر اليومي الذي يخيم عليها، حيث كل نأمة قد تكون معرّضة لإصابة قذيفة أو قناص. إن مواجهة الموت على هذا النحو ليست فعلاً تراجيدياً، إلا إذا وصفنا الثورة السورية بالملحمة التراجيدية التي تحكم مصائر شخصياتها أقدارٌ لا فكاك منها، وهذا ما لا يصحّ على شباب اختاروا تغيير “أقدارهم”، واختاروا مواجهة القوة الغاشمة التي كانت تتحكم بهذه الأقدار يوماً ما.

في اضطرار بعض الناشطين إلى مغادرة البلد استكمالٌ لسياق فرضه النظام طوال عقود، أما مجيء آخرين في هجرة معاكسة فهو كسر لفكرة المنفى التي اعتادها النظام وسلّم بها معارضون. لقد كان من السائد أن يهاجر الشباب السوري، إن لم يكن بسبب ضغوط شخصية فبسبب الظروف العامة السيئة، أما من لا يُتاح له السفر فقد كان يكتفي بأن يحلم به. ولعل الهجرة هي التي حفزت كفاءات الكثيرين منهم، بما أن بقاءهم في الداخل لا يستوجب المعرفة بقدر ما يستوجب القدرة على تسلق سلم الانتهازية والمحسوبيات، من دون أن يخلو الأمر أحياناً من علاقة مشبوهة مع جهة أمنية.

من نافل القول أن “الوطنية” لم تكن سوى نكتة سخيفة ينفر منها السوري، فالنظام الذي واظب على التستر بالشعارات الوطنية دفع السوريين إلى الكفر بكل هذه المقولات؛ لقد كفروا بالوطن الذي يحتكره هذا النظام، والذي بدا أنه سيحتكره إلى الأبد حقاً. على ذلك لم يكن لدى الشاب السوري ما يبقيه في أرض لا يرى لنفسه مكاناً فيها، ولم تكن معركة استردادها واردة أصلاً بعد فشل أجيال سابقة أورثته تجاربُها اليأسَ، إن حالفه الحظ وسمع بتلك التجارب. لقد نشأ شباب الثورة في كنف هذا النظام، فكان أقصى ما تصبو إليه نسبة معتبرة منهم أن تعيش حياتها بعيداً عن إذلاله وكذبه، وفي الحد الأدنى بعيداً عن سماجة المفاهيم التي يفرضها عليهم.

كان كل ما يمسه النظام يصبح منفراً وطارداً لكل ذي إحساس ووعي، رغم أنه حاول في العقد الأخير الإيحاء بأنه نظام شاب يلبي ويمثل طموحات الشباب خصوصاً، فلعب على وتر تقديم فرص عمل مجزية نوعاً ما، ولكن محدودة جداً. في السنوات الأخيرة انتشرت المؤسسات الخدمية أو الإعلامية التي يملكها أثرياء الفساد من رجالات السلطة، وراحت تستقطب الكوادر الشابة، ومع قلة الفرص الحقيقية التي توفرها، فإن أهم ما حاولت تكريسه هو جعل بعض الشباب يتنافسون عليها بحكم الحاجة، وفي الواقع جعلهم يتنافسون على العمل ضمن منظومة السلطة نفسها وامتلاك الوهم بأنهم أصبحوا جزءاً منها. ومنذ بدء الثورة تكشفت هذه المؤسسات عن الوجه القبيح تماماً، إذ عمد بعضها إلى استغلال كفاءات العاملين من أجل القيام بأعمال التشبيح الالكتروني على مواقع الناشطين، فيما عمد البعض الآخر إلى استغلالها في التشبيح الإعلامي، ولم يتورع البعض الآخر عن ممارسة التشبيح الجسدي المباشر. نجح النظام خلال الفترة ذاتها في الإيحاء بأنه سيطر على عقول الأجيال الشابة الجديدة، فلم يكن متوقعاً منها أن تبادر إلى مقارعته بالإصرار المدهش الذي رأيناه طوال الثورة، بل أتته المفاجأة في كثير من الأحيان من الشباب الذين ظن أنه قد اشترى ذممهم أو أغواهم بوهم السلطة.

إما التنافس على الفرص التي تقدمها السلطة أو الهجرة إلى الخارج، فهذا ما كان متاحاً قبل أن يبدأ السوريون موسم الهجرة إلى الثورة. كأنهم راحوا يهاجرون إلى بلادهم الموعودة التي لم يروها يوماً، بلادهم التي لم يختبروها بعد إلا تحت التعذيب وإطلاق الرصاص، ومع ذلك كانت جديرة في نظر الكثيرين بأن يتركوا دعة العيش خارجها ويرجعوا إليها. باسل شحادة على سبيل المثال، ابن الحي الدمشقي المتوسط وخريج المعلوماتية والرحالة السابق، ترك منحة دراسة السينما في الولايات المتحدة، المنحة التي يحلم بها كثيرون من أقرانه الشباب في مختلف البلدان، وأتى ليصنع سينما الواقع المتواضعة بإمكانيات لا يسمح بغيرها القصف المستمر على مدينة حمص، ولأن شبيحة النظام يدركون قبل غيرهم أهمية إسهاماته فقد نعوه على طريقتهم في إحدى شبكاتهم الإعلامية بالنص التالي: (تعميم هام: سيحاول اليوم بعض الجرذان استغلال قداس وجنازة الفاطس باسل شحادة لاهثين كالكلاب الضالة من أجل اختلاق مظاهرة في منطقة القصاع مساء اليوم الخميس. الرجاء أخذ الحيطة والحذر مع العلم أن المقبور هو احد مدراء شبكة شام العميلة الذي تم إرساله بتذكرة من الدرجة الأولى الى جهنم على أيدي جنودنا البواسل في عملية نوعية تم فيها قتل 4 آخرين مثله، وهم أحمد الأصم مدير “شبكة شام” في حمص، عمار محمد، سهيل زاده، ومدير قسم البث المباشر في الشبكة لورانس فهمي النعيمي ، والمصور احمد عدنان الأشلق. أما الفاطس فهو طالب تصوير سينمائي في الولايات المتحدة، وكان عاد إلى حمص قبل نحو ثلاثة أشهر بتوجيهات الجهة الأمريكية التي تشرف على “شبكة شام” وتمولها، من أجل تدريب كوادر ميدانية على التصوير).

من المحزن ألا ينعم باسل شحادة وأمثاله بالعيش في سوريا الجديدة، لكن تجربة العيش في الثورة باتت هي الأهم حالياً، لذا يهاجر السوريون إلى ثورتهم، يهاجرون إليها من كل أصقاع البلاد، ومن الأصقاع التي سبق لهم أن هاجروا إليها من قبل، البعض منهم كابد العيش بعيداً عنها فلم يتحمل ذلك كحال الناشط المعروف عمر إدلبي الذي عاد متسللاً من لبنان إلى مدينته حمص. بالطبع هذا لا يعني أن السوريين أقلعوا عن التفكير بالسفر خارج البلاد، بل إن العديد منهم يعبّر عن رغبته في السفر، ولكن بعد أن يفرغ من مهمة إسقاط النظام.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى