صفحات الثقافة

موقف جيل الشباب من الذاكرة الأدبية: من السكون إلى التمرد ومحاولات التجاوز/ محمد عبد الرحيم

 

 

كيف يرى الجيل الجديد من شباب الأدباء، شعراء وروائيين، التراث الأدبي؟ كيف ينظرون إليه الآن، وهل أصبح هذا التراث ورواده بمثابه عائق كبير يحتل ذاكرتهم ووعيهم، بحيث لا يمكنهم تجاوزه؟ أم أن البعض لديه من المحاولات والأفكار والموهبة أن يبدأ حالة التجاوز أو التمرد على الموروث الكلاسيكي في الأدب العربي والمصري بوجه خاص؟ ولماذا حتى الآن تدور أعمالهم في مدار المحاولة والتجربة؟

ربما حقق التجاوز والتمرد الشعري بعض النجاحات، لكن في مجال الرواية، ورغم الصخب الروائي الذي نعيشه، لم تزل تجربة (نجيب محفوظ) كمثال الأكثر تأثيراً واستمراراً.

هنا استعراض لآراء بعض الأدباء المصريين الذين يمثلون الجيل الجديد، كمحاولة بدورنا لفهم وجهة نظرهم وما ينتون من محاولات وإضافات إلى خريطة الأدب، سواء على مستوى اللغة أو الشكل الفني، وفي المقام الأول مدى تمثلهم للمتغيرات السياسية والاجتماعية في وقتنا الراهن.

ضرورة التجاوز

بداية يرى الشاعر والكاتب المسرحي ميسرة صلاح الدين، أن الفن والإبداع كائنان متطوران شديدا الخصوصية. والتمرد لا يعيش على أمجاد الماضي ولا يستكين للواقع، لكنه دائماً ما يسعى لأن يغير نفسه ويعبر عن أصحابة بلغتهم الخاصة، وبطرقهم المتجددة التى تناسب الواقع الذي يعيشونه، لكنه في الوقت نفسه بناء راسخ وجذوره قوية ضاربة في قدم التاريخ. يقدم كل جيل لما بعده عن طيب خاطر عصارة تجربته وخلاصة فكره وإبداعه .وفي إطار الإتاحة المعلوماتية التي سهلت لنا ككتاب وشعراء شباب، أن نطلع على مصادر شديدة التنوع والثراء من الفن والإبداع، أصبح من الصعب جداً أن نحدد مصدرا واحدا يمكننا أن نرتكن إليه في بناء ثقافتنا وفهمنا للفن والأدب، وعلى سبيل المثال صارت أعمال نجيب محفوظ ويوسف إدريس جنباً إلى جنب بجوار أعمال ديستويفسكي وصامويل بكيت، وصارت قصائد نيكانور يارا ووالت وايتمان بجوار قصائد فؤاد حداد وأمل دنقل تشكل إطاراً واحد نستقي منه الخبرة والإلهام، وكل منهم يترك أثره ويجبرنا على التفاعل معه وتعاطيه بطريقه مختلفة ورؤية متغيرة .ورغم ذلك الأثر الكبير لتلك الأعمال العظيمة فقد أصبح من المحتم علينا تجاوزها، والبحث لأنفسنا عن صيغة إبداعية جديدة تميز جيلنا وتعبر عن عصره الذي يعصف بالكل بمتغيراته السياسية والاقتصادية والاجتماعية العنيفة والمتعاقبة، ويحملنا لأبعاد جديدة وواقع جديد قد صار في أحيان كثيرة أغرب من الخيال وأشد سخرية وقسوة .هذا العصر الذي أفرز العديد من محاولات التمرد ومحاولات الكتابة المختلفة، التي تحسب لأبنائه الشباب، ولكن ما زال الوقت مبكراً لفرز تلك التجارب وتصنيفها لمعرفه مدى قدرتها الحقيقية على تجاوز ما سبق، وصنع واقع أدبي وثقافي جديد قادر على أن ينضم في المستقبل لذلك الطابور الطويل من الإبداعات العظيمة .

ليس نزاعاً بل محاولات للخروج

ويقول الروائي إبراهيم القاضي، الأدب هو فن التعبير عن الإنسان، ومشاعر الإنسان ومعاناته قديمة منذ الأزل، وما يحدث للبشر هو تكرار لما تعرض له أجدادهم، وقد تطرأ تغيرات بفعل عامل الزمن، لا بد من أخذها في الاعتبار عند التناول. يعتبر نجيب محفوظ الأب الروحي للرواية المصرية الحديثة، فكتاباته أسهمت في تجديد أساليب ولغة وطرق كتابة الرواية في مصر والعالم العربي، وكانت أغلب موضوعاته مستلهمة من الحارة المصرية، في دمج بديع ما بين الواقع والمتخيل، واشتباك المبدع مع قضاياه المعاصرة المعبرة عن نزعة الإنسان للحرية. ويضيف، أما على المستوى الشخصي فأنا من المفتونين بعمالقة الأدب العربي توفيق الحكيم ويوسف إدريس وخيري شلبي، ولا أرى نزاعاً بين القديم والحديث، فالرواية الجيدة هي التي تنجح في استفزاز عقل القارئ، لا تلك التي تقدم له المعلومات على طبق من فضة، والرواية سواء بالأمس أو اليوم في رأيي إما أن تكون ناجحة أو لا، وبالطبع ثمة مياه جديدة جرت في النهر، وهناك كتابات حديثة حاولت الخروج من جلباب مبدعينا الكبار، وبعضها لاقى نجاحاً. من ناحية أخرى لا يمكن إنكار التغير الطارئ على عقل القارئ العربي بصفته المتلقي للإبداع، فثمة نزوع لإعطاء الجانب الأخلاقي للرواية، والحكم عليها من منظور ديني، ما حدا ببعض الكتاب إلى الميل أكثر إلى المحافظة والرقابة الذاتية، خوفا من بطش سلطة القارئ، ما نتج عنه روايات أقرب منها إلى المواعظ الدينية من فن الرواية الرصين، المبني أساساً على حرية العقل والفكر، بالإضافة إلى رواج كتابات جديدة يطلق عليها «روايات الرعب»، تغازل مشاعر الشباب القلق، الذي يعيش واقعا غير آمن، ويلوذ من أجل مواراة خوفه إلى هذا النوع من الكتابات المعروف مقدما أنها متخيلة في تحد زائف لذاته. ومن ناحية الأسلوب، فقديما كان الروائي يسهب في وصف المكان، أما الآن في زمن سيطرت فيه الصورة، اكتفى الروائيون الجدد بوصف المشاعر والانفعالات، تاركين مساحة أكبر للقارئ لإعمال خياله، وصار إيقاع العمل الأدبي أسرع، كما ظهرت أشكال جديدة على الساحة الأدبية كالقصة القصيرة جدا، أو القصة الومضة، وفي ما يخص اللغة كانت اللغة مقدسة إلى حد كبير في الماضي، واليوم حطم الكثيرون التابوه، وصارت اللغة وسيلة أكثر مرونة لنقل الإبداع وليست غاية في ذاتها.

التمرد الإيجابي

ويقول الشاعر محمود فهمي، إن أدب نجيب محفوظ مرّ بعدة مراحل، بداية من المرحلة التاريخية التي كتب فيها روايات تستلهم التاريخ المصري القديم واللحظات المضيئة في هذا التاريخ، فقدّم روايات مثل «كفاح طيبة» و»رادوبيس» و»عبث الأقدار»، ثم انتقل إلى المرحلة الواقعية التي ترصد المجتمع المصري في ما بين الحربين، وقدّم عدة روايات مهمة مثل «زقاق المدق»، ثم انتقل إلى مرحلة كتابة الروايات الملحمية مثل «الحرافيش» و»أولاد حارتنا»، ثم انتقل إلى مرحلة الرمزية وقدّم عدة روايات تحمل نفسًا فلسفيًا مثل «قلب الليل» و»اللص والكلاب» وغيرهما، فإن كان نجيب محفوظ نفسه قد تمرد على نفسه وانتقل من مرحلة إلى أخرى رغبة منه في تجاوز ما كتبه، فإن على الأدباء الجدد كذلك الاستفادة مما قدمه السابقون ثم التمرد عليهم بالمعنى الإيجابي للتمرد، وهو تجاوزهم واكتشاف وارتياد طرق جديدة للكتابة. هناك العديد من الأصوات الجديدة التي نجحت في ابتكار كتابة مختلفة بالفعل، هناك أصوات مهمة ومتفردة وتستحق أن ترصد تجربتها جيدًا مثل، محمد الفخراني وطارق إمام وهاني عبد المريد وأحمد عبد اللطيف، كل هذه الاسماء جاءت على سبيل المثال فقط، فهناك منهم من استفاد بتقنيات الكتابة الآتية من أمريكا اللاتينية خاصة، فقدموا لنا ما يمكن القول إنه واقعية سحرية مصرية.

صراع الهامش والمتن

ويضيف الشاعر مصطفى أبو مسلم قائلاً: الكتابة من وجهة نظري قائمة على نظام هيراركي، وهو البناء على ما سبق وما توصل إليه الآخرون، فقصيدة النثر مثلا لا تجب ما قبلها من أشكال القصيدة الشعرية، سواء العمودية أو التفعيلة، لكن المتغيرات السياسية والاجتماعية بعد الحروب والنزاعات الكبيرة غيرت مفهوم الأريحية لاكتشاف أجوبة نهائية أو أبدية لمفهوم الشعر، ذلك أدى بالتبعية لظهور نماذج شعرية متمردة ومفارقة على مستوى الشكل والمضمون، كانت بمثابة ثورة بنيوية على اليقين الكلاسيكي والسلفية الشعرية المسيطرة على مفاصل الساحة الأدبية، لكن تعنت بعض الكبار من كتاب التفعيله والشعر العمودي الذين اتسمت كتاباتهم بالمباشرة والخطابية في معظم الأحوال، وعدم الخروج على مرجعياتهم المستقرة في ذاكرتهم الشعرية، وهجومهم الشرس على قصيدة النثر وعدم اقتناعهم بفتح مجال للتجديد والتجريب لتأسيس مرجعيات وثوابت جديدة، أدى إلى صنع فجوة كبيرة تصل لحد التبرؤ من الآباء الشعريين والقطيعه معهم، على الرغم من أن قصيدة التفعيلة كانت شكلا متمردا على القصيدة العمودية في الخمسينيات، وهامشا حتى سادت وتحولت إلى متن لأنها لم تتخل عن البنية العروضية المكونة للقصيدة العمودية الكلاسيكية، وصارت قصيدة النثر هامشا. ويضيف أبو مسلم.. حالة القطيعة مع الموروث الثقافي هذه جاءت تبعاتها في تجارب ظهرت في العقد الأخير لكتاب يسبحون في الفراغ يعتقدون أن التجديد في «اللغة» أهم من البنية، وأعادت إنتاج الأدب المترجم كوسيلة ثورية من وجهة نظرهم، وكأن سوزان برنار أخطأت في تسمية كتابها «قصيدة النثر من بودلير إلى أيامنا» وكان من المفترض أن تسميه «قصيدة النثر من بودلير إلى Google translate ! مشهد عاد بنا إلى التجريد، أي ما قبل الثمانينيات، حيث كانت القصيدة النثرية تقترب من الواقع، على الرغم من أن الظروف السياسية القمعية حينها هي ما أدت إلى استخدام هذا النوع. فلا مبرر لإعادة الشعر إلى سيرته الأولى سوى نقص الموهبة أو انعدامها، حيث أدى ذلك لنفور القراء من الشعر الحديث واتجاههم للمباشرة والسطحية في الكتابة، هروبا من الحائط المسدود الذي يصلون إليه، وقليلون هم من يمتلكون مشروعا شعريا خاصاً، أو يخرجون عن النهج التقليدي للقصيدة التي لها خصوصية وغير المتعددة الأصوات، وهم بعيدون عن الأدلجة، يشتبكون مع أنفسهم ومع القضايا الكبرى بتفاصيلها الخاصة، رغم الأزمات السياسية والاجتماعية التي انعكست بشكل كبير على الساحه الثقافية.

قطائع مجانية

وفي الأخير يقول الشاعر أحمد عايد.. أثبتتْ كثير من الدراسات النفسية الحديثة أن انتقالًا جينيا وتخاطريا يحدث بين الأجيال، ويعني هذا أنّه من الممكن أن تنتقل بعض المعارف والانطباعات بين الناس، بدون تعليم مباشر أو غير مباشر حتى. لربما يكون جيل الكُتَّاب الشباب الآن واحدًا من الأدلة على صدق هذه النظرية. فليس مجهولًا أن قطيعةً كبيرةً حصلتْ في القرن السَّابق، ضاربةً أجيالًا كثيرةً في جميع المجالات. ولكن في ما يخصُّ الأدب، وبصفتي واحدًا ينتمي لأجيال الشباب، وبصفتي مطَّلعًا ومشاركًا فيه، لقد كانت قطيعةً مرعبةً، خلخلت كيان الثقافة، باعتبار الثقافة هي الصورة المنعكسة للمجتمع. هذا المجتمع الذي أصابته الهزائمُ السياسية والحربية والنفْسية بانعدام الثقة في كل ما هو قديم. فالمثقفون والأدباء جزء من نسيج المجتمع يُصاب بما يُصاب به. لقد أخذت الأجيال التي حضرت الهزائم ــ التي تزامنت تقريبًا مع تفجُّر الحداثة العربية ــ مسافةً فاصلةً كبيرة، يصح لنا في بعض الأحيان أو مع بعض الحالات أن نصفها بأنها قطيعة تامة. كان المجتمع يتخلخل ويتشظى، والمثقفون والأدباء بالمثل كذلك. كانت القطيعة تُحاول أن تُعالج نفْسها حينًا، بالرجوع إلى التراث الذي يتناسب وما يُنشده الحداثيون، وتقطع كل ما له صلة بما يخص الحكومة، سواء على ناحية الترسيخ الشكلي في الكتابة أو العلاقات النفعية. وصار لدينا أبناء جيل واحد، لكن فيهم من يرتمي في أحضان المؤسسة الرسمية وينتفع منها أقصى انتفاع ــ وهم كلاسيكيون حتى لو ادعوا الحداثة وحاولوا الكتابة على أنماط الحداثة، وحتى لو أفلحوا فإنهم يتخذون الثقافة الرسمية شعارًا لهم ــ وهناك مجموعات متفرقة متفقة على عدم التعامل مع هذه المؤسسة، وتتخذ الصنف الأول أعداء لها. امتدت هذه القطيعة – أو قل إن شئتَ القطائع ــ من جيل إلى جيلٍ، وفي كل حقبة تقريبًا يظهر جيل جديد، أول ما يفعله أن يزيد في قائمة الأعداء الجيل الذي سبقه. ويضيف عايد، في واحدٍ من اللقاءات التي جمعتني بالشَّاعر والمترجم رفعت سلَّام، سألته: بعد كل هذا العمر الطويل مع الكتابة والشِّعر والترجمة ما الشيء الذي تندم عليه بشدة؟ فقال: أني أضعتُ الكثير من الوقت في شبابي في المهاترات والمناقشات، كل هذا لم يكن هناك طائلٌ من ورائه، وكان بوسعي أن أستغله جيدًا في الكتابة أو الترجمة. لعل هذه الإجابة تُعد ملخَّصًا عما حدث خلال نصف قرنٍ كاملٍ!

الجيل الجديد

وبالنسبة لوجهة النظر إلى الجيل الجديد يقول الشاعر أحمد عايد.. في أوائل الألفية الثالثة، بدأت الثقافة تصير مشاعًا، لا أحد يستطيع أن يُصدر ثقافة بصيغة رسمية؛ لأن القارئ والمتابع للمشهد يستطيع الوصول إلى أيٍّ شاء. هناك مواقع الإنترنت، وهناك مواقع تقييم الكتب، وهناك مكتبة إلكترونية كاملة، لا تهتم بمحتوى دون آخر، بل تجد فيها الجميع بالمساواة، والفيصل هنا إقبال المتلقي. فكانت الأجيال الجديدة الشَّابة أكثر تفهُّما وتعطُّشا للثقافة، فهي لا تملك أي عداءات مسبقة، خصوصًا بعدما خفت وهج الخلافات وخفت أصحابها كذلك، ربما بسبب انعدام وجود جدوى من كل ما فعلوه خلال عقودٍ كثيرة. مدَّ الشباب يده إلى كل ما تطاله، غاضًّا الطرف عن الخلافات، متَّخذًا الأدب الحقيقي المعيار الأوحد، مستفيدًا من كل التجارب باختلافها وتنوعها، بل انفتح على تجارب لم يسبق للأجيال السابقة أن تعرفت عليها أصلًا. لربما يكون موقف الشباب هو الموقف الإنساني، إن الإنسان لا يملك أن يحكم على شيءٍ دون أن يحتك به ويشاهده ويختبره. وهذا ما فعله الشباب؛ فقد ذهب بنفسه ليعرف ويقرأ ويطلع ويقرر ويحكم. ولكن.. يبقى سؤال مرعب: ماذا سيحدث بعدما يظهر جيل جديد في الشباب؟

القدس العربي

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى