ميراثا الاستبداد: العنف والثروة
رستم محمود
لأسباب كامنة في بنيته، فأن “الاستبداد العربي الحديث”، سيترك ميراثا ضخما وراءه. حيث ستكون تركته تلك، وطريقة تصريفها والتعامل معها، أولى واهم المعاير التي سوف تقاس على أساسها، صحيّة المسار الذي ستسير عليه التجارب السياسيّة التي سوف تلي هذه المرحلة الاستبدادية.
فامتداد هذا الاستبداد لفترة زمنية طويلة، عمّق من دوره وتأثيره على كافة التفاصيل في دولنا، بدءا من طبيعة النظام السياسي التي خلقها هو بنفسه، وليس انتهاء بطبيعة العلاقات الاقتصادية والثقافية والمعرفية وشبكات العمران ومناهج التعليم.. الخ في تلك المجتمعات التي حكمها. فأعمار هذه الأنظمة الشمولية تراوحت بين ثلاثة وستة عقود زمنية، وهي كانت فترة كافية لإعادة صياغة كل شيء تقريبا في مجتمعاتها. كما أن رغبة تلك الأنظمة بالقبض التام على “روح” مجتمعاتها، لمنعها من إحداث إي تغير غير مدروس، حولها من فاعل بحت سياسي إلى فاعل وضابط عام في كافة مجالات الحياة العامة، وحتى الخاصة، فهي لم تكن بالضبط استبدادا عسكريا أو ملكيا تقليديا، يمسك بقمة السلطة، ويترك للمجتمع فسحات لممارسة رغباته. فقد كانت السيطرة المجتمعية، غاية كامنة في كافة ممارسات استبدادنا المحلي. يضاف إلى ذلك تأثيرا، حجم الثروة الضخمة التي أستحوذها الجهاز الحاكم في أكثرية تلك النظم، وقدرتها على تكوين دول ريعية. وقبل كل ذلك، كانت مجتمعاتنا التي حكمت قبلها، شبه بدائية وغير منخرطة في الحداثة الثقافية والسياسية، فكانت عجينة سهلة التكوين على يد هذا الأخطبوط الاستبدادي.
الحيز النفسي والروحي من ذلك الميراث، أي ما يخص تأثير الاستبداد على لاوعي الكتلة البشرية التي كانت محكومة منه، في سلوكياتهم وطرائق تفكيرهم وأشكال وعيهم، قيح وحرج بليغ. سيحتاج من دون شك لمعالجات طويلة واعية وضخمة. معالجات في حقول التربية والقضاء وشكل الدولة والحريات الإعلامية ودعم الدولة لشبكة من القطاعات المدنية، وتوفير الحماية لشبكة أخرى من القطاعات التي يمكن ان تنشط في الفكر والثقافة والفنون دون تلك الحماية. أن تحميها من سلوكيات أبناء الاستبداد المديد وأحفاده. هذا الشطر لا يمكن التخطيط له في حيز زمني ضيق ومحدد، ولا يمكن لجماعة وطنية سياسية أو ثقافية اختزال تمثيله وتنفيذ اجنداته. بل ستكون فضاء مفتوحا لأجيال متعاقبة وحركة تاريخية متراكمة، وسيكون دور الدولة فيها مختصرا على فعلي الدعم والحماية من العنف. فثقافتنا المحلية أساسا، وبسبب الاستبداد عمقا، لم تعرف احتراما وأجلالا للعلوم الإنسانية أو الممارسات الفنية والفكرية، حيث تشكل هذه الأخير المصل المضاد لتراكمات ميراث الاستبداد في الحيز النفسي والروحي من ذوات “الضحايا”.
على جانب آخر، يبقى لهذا الاستبداد ميراث مادي عياني غير بسيط، يمكن له أن يستغل بأشكال وأنماط شتى، وعلى أثر طريقة التعامل تلك، يمكن لذلك الميراث أن ينتج حصائل متنوعة. فليس بقليل أن يحل الحزب الوطني الديموقراطي المصري، هذا الحزب الحاكم لدولة كبيرة بحجم مصر، ولنصف قرن تقريبا، ترك خلفه آلاف المقرات الحزبية وآلاف المؤسسات الإنتاجية ومئات القطاعات الاخرى التابعة له. فكيف ستصرف هذه الثروة الضخمة؟ وحسب أي عرف وأي قانون، وهل يكفي التماهي مع عرف بسيط يقول بعودتها ل”خزينة الدولة”. يقال ذلك، وفي البال أن هذا تاريخ هذا الحزب والحزبان الرئيسيان الآخران في مصر، التجمع والناصري، حيث حافظوا على مكانتهم الوطنية والمادية، أساسا، بعد تقاسمهم الميراث المادي لحزب مصر الرئيس، الاتحاد الاشتراكي، في بداية عصر الرئيس السادات، فلولا ذلك الاستحواذ والتقاسم من قبلهم لثروة “حزب الدولة” لما كانت لهم هذه المكانة في تاريخ مصر الحديث أساسا.
لكن تبقى مسألة المقرات الحزبية والمؤسسات المالية والقطاعات الإنتاجية التابعة لمثل هذه الأحزاب سهلة، أمام هول الثروات المالية الضخمة التي بقيت من استبداد دول أخرى. فثروة العائلة القذافية التي تتراوح بين عدة عشرات من مليارات الدولارات، يمكن لها أن تكون منتجا ضخما لتنمية بشرية في بلد راكد مثل ليبيا، ويمكن لها بالمقابل، أن تتحول لمصدر لصراعات أمراء الحرب. والنموذج العراقي الذي كان أقرب للنموذج الليبي، لم تكن نتائجه صحية وصالحة لمستقبل أفضل للدولة العراقية “الجديدة”.
كما يتضح، فأن مصير هذا الميراث المادي، ستتنازعه ثلاث إشكالات يمكن أن تحوله لـ”استبداد من نوع آخر” :
أن تتحول تلك الثروة لشكل من أشكال الدية أو الرشوة المبطنة للقوة التي استطاعت السيطرة على الحكم في مرحلة ما بعد الاستبداد. تلك القوى التي تمتد من المجلس العسكري في مصر إلى المليشيات والقبائل المسلحة في كل من ليبيا واليمن إلى القوى الإسلامية المحافظة في تونس. فهذه القوى لو مدت قوتها التشريعية بالاستيلاء المنفرد على ميراث الاستبداد، فأنها سوف تدخل في علاقة غير عادلة ومتكافئة مع باقي القوى التي يمكن أن تنافسها مستقبلا، فباستيلائها على تلك الثروة، تبدو وكأنها ستستولي على الدولة نفسها. وهذا الاستحواذ الذي يمكن أن يمارس بأكثر من نمط وتعبير، وكثيرها يمكن أن يأخذ شكلا قانونيا ودستوريا. فماذا يعني أن تقسم ثروة عهد القذافي على “المتضررين”، حيث يقصد بهم بالضبط أمراء الحرب وميلشياتهم، أين باقي طبقات الشعب الليبي في ذلك؟ وماذا يمكن أن تحدث تلك الكميات الضخمة من الأموال على بنية تلك المجموعات المسلحة؟. الأمر نفسه يمكن أن يجري في مصر تحت ذريعة “تحت سيطرة الجيش” !. وماذا سيعني لو طرحت كافة مقرات وقطاعات الحزب الحاكم في مصر وتونس للبيع العلني، من يملك تلك الكميات الضخمة من الاموال لشرائها، وهل فعلا أستولى الحزبان الحاكمان في مصر وتونس على تلك الثروة من مداخيل تلك الطبقة التي تستطيع شرائها بملاين الدولارات، أم من مداخيل الطبقات المالية الاكثر حرمنا في ذلك البلدين؟!. في اليمن يمكن لزعماء العشائر أن يستولوا على القطاعات الاقتصادية والمادية التي كانت مشغولة من قبل الطبقة الحاكمة، وإن حدث ذلك، فأي رادع لأن لا يتحول هؤلاء الزعماء العشائريون لأشكال محدثة من الاستبداد، بقوتي المال والسلاح؟. طبعا طيف المثال العراقي يقف خلف كل تلك التداعيات، فهو كان جامعا، أي النموذج العراقي، للتصرف بميراث الاستبداد، جامعا لشح العدالة وتمتين الاستبداد الجديد.
أن تغلب النظرة المثالية الرمزية على طريقة التعامل مع هذا الميراث الباقي، كأن تتحول مقرات الأحزاب الحاكمة إلى متاحف وحدائق، أو أن تتحول الأموال المادية الضخمة إلى صناديق ريعية تدفع لمجموع الشعب. فبهذا الشكل، سيتحقق من هذا الميراث الحد الأدنى المنتظر. لأن ضخامته تفوق حجم ما بقي من تركة في النماذج الأخرى من الأنظمة الاستبدادية الأخرى، كالأنظمة العسكرية التي كانت في المرحلة السوفياتية، فهي لم تترك في النهاية سوى بضعة ثكنات عسكرية وعدد من معسكرات الاعتقال، وكثير من زعمائها رحلوا خالي الوفاض (ثروة عبد الكريم قاسم لم تكفِ ذويه لشراء تذاكر الطائرة للسفر للأردن، فغادروا إليها برا). طبعا يمكن لجزء من ذلك الميراث، ان يتحول للاهتمام بالجانب الرمزي المثالي. لكن مثلاً، “غابات” الفروع الأمنية المنتشرة في كافة المدن والبلدات والقرى في كل بقعة من سوريا، يمكن لها أن تفيض كثيرا على عمل مثالي أو رمزي يعبر عن مرحلة البعث في سوريا مثلا. وثروة القذافي في البنوك الأوروبية تكفي لإنجاز 3000 معلب رياضي حديث و1000 متحف مثالي.
أن يصرف كل الميراث لصالح جيل واحد وبشكل سريع، بحيث يدخل في دوامتي الفساد والربح السريع. فلا يمكن تصور هذا الميراث كثروة وطنية باطنية او قطاع اقتصادي طبيعي، لطبيعة مصدره وطريقة تكونه وطبيعة ضحاياه. فهذه الحالة الأخيرة، هي المضاد غير المنتج فعلا للنظرة المثالية الرمزية التي يمكن أن تصرف به هذه التركة.
بجدلية ما، ماذا لو تصورنا حالة ميراث الاستبداد العربي على شكل عالمين متباينين. فالاستبداد ترك جرحا وأثرا عميقا في الشخصية الوطنية وفي المعالم النفسية والروحية لجل المواطنين الذين حكمهم في فترة استبداده المديدة، جرح أصاب التنمية البشرية/الثقافية لضحاياه بتخلف بالغ عن جل الحراك الإنساني العالمي. مقابل ذلك، فقد ترك ثروة مادية عيانية ضخمة جدا. كيف لنا معالجة هذه بتلك؟
ماذا لو تحولت تلك الثروات وبإشراف برلماني ديموقراطي لصالح تنمية واقع الطبقات الأكثر حرمانا من ضحايا هذا الاستبداد، تلك الطبقات التي كانت هذه الثروات ناتجة عن حرمانها المديد من حقها الطبيعي في ثروة بلادها. ليس أن تذهب تلك الثروات بشكل مبالغ تدفع لها مباشرة، بل على شكل مشاريع خدمية وصحية وتعليمية تعيد لهم بعض اعتبارهم، فالعشوائيات والأمية والبطالة ملفات ضخمة يمكن ان تحل هذه الثروات جزءا مهما منها.
من طرف آخر، ماذا لو ذهبت تلك الثروات لصالح المؤسسات الأعمق التي أهملها الاستبداد، المؤسسات التي تستطيع أن تفكك ميراثه في ذوات ضحاياه، ماذا لو ذهبت تلك الثورات لصالح مؤسسات التعليم ومراكز البحوث وتنمية السينما والمسرح والموسيقا…الخ.
لابد من الديموقراطية في كل شيء، وبالذات في أي شيء بقي من الاستبداد، وإلا فمن قال انه رحل، إي الاستبداد.
المستقبل