ميريم قريشي: ما علينا أن نستيقظ بل أن نحس/ روجيه عوطة
إلى أين ذهبنا بالأحاسيس؟ لماذا، وعندما تظهر أمامنا، لا نأخذها بعين الجدية أو بعين الإهتمام؟ كيف بلغنا هذا الحد من ازدراء الطيبة، التي نتلقاها كعلامة على غباء ممارسها أو عدم انصرافه من “طبيعته”؟ تجيب على هذه الإستفهامات، الفيلسوفة ميريم قريشي، في كتابها الجديد، “دراسة في المشاعر الطيبة” (دار آلبان ميشال-2016)، بما يشبه الصيحة: “مشاعرنا الحسنة هي منفذنا!”.
استطاعت قريشي، على امتداد مؤلفها، ان تتعقب منظورات التعامل مع المشاعر الطيبة من العصر الكلاسيكي حتى يومنا هذا، وتحديداً حتى تظاهرات Nuit Debout في فرنسا، حيث رأت أن تلك المشاعر أكثر اتصالاً بأصحابها، من خطاباتهم أو إيديولوجياتهم، كما أنها الأكثر تعبيراً عنهم، على عكس صورهم أو شعاراتهم.
وعلى الرغم من ذلك، لا يتوانى اللسان العام عن تناولها بوصفها موضوع درء أو إحتقار أو شفقة، لا سيما أنها تشير، وبحسب رافضيها ومتجنبيها، الى قوة الآداب لا أكثر ولا اقل. فهي لا تعتري صاحبها، ولا يسير وفقها، إلا إذا كان مأخوذاً بقيم ومعايير لا طائل منها. بالتالي، يبدو انه ليس على دراية بعيشه الا انطلاقاً من إرث أخلاقوي، يجعله طيباً أو مهذباً.
تتدخل قريشي هنا لتفصل المشاعر عن محاملها الآدابية. ولذلك، تتكئ الى نصوص من القرن السابع عشر، مؤكدةً على ان الطيبة وأحاسيسها كانت طريقاً الى فهم وادراك الأشياء من حولنا. لكن، لاحقاً، حصلت القطيعة بين العقلنة والأحاسيس، حتى صارت الأخيرة غير جديرة بالتوقف عندها. وبذلك، أضحى تفسيرها الغالب، تفسيراً أخلاقوياً. على هذا الأساس، ما عادت تحظى بمعانيها من تلقاء ظهورها في أحدهم أو اعترائها له، بل بإرجاعها الى العقلانية، ثم كبحها، أو الى الأخلاقوية، ثم الحكم عليها بأنها بلا نفع وسعة.
تمضي قريشي إلى تتبع تبدلات المشاعر الطيبة، وتجد أنها، وعلى الرغم من احتقارها في الزمن المعاصر، تنتشر على سبيل صوري أو مشهدي. تماماً، كما هي حالها في الأيقونات الإحساسية، أي الإيموتيكون، المستعملة في الكتابة التواصلية في العالم الإفتراضي. فقد استحالت تلك المشاعر أيقونات، أو بالأحرى رموزاً وَجهِية، نفرط في استخدامها في الرسائل، التي نتوجه بها إلى “أصدقائنا”، وذلك، من دون أن تنم عنا، أو ننتجها، بالضرورة.
إذ لما غدت مجرد أيقونات، بات ظهورها يحيل إلى وجوهها فقط، وليس إلى مستعمليها. ونتيجة هذا، فرغت المشاعر من وطأتها، وصار تلقيها عاجلاً من ناحية، وعادياً من ناحية أخرى. فحتى لو انطوت على فاجعةٍ، من الممكن لأيقونة أن تختزلها، وتدفعنا إلى تناولها كنبأ بعيد جداً، ولا يترك أي أثر فينا، أو تدفعنا إلى تلقفها في الرد عليها بمماثلها، كأن نتراشق بالأيقونات، وبذلك، نؤكد لذواتنا أننا ممتلئين بالمشاعر. لكننا، عند ذلك، لا نحس، بل نكرس المشاهد، ولا تعترينا سوى سلطاتها وقوانينها.
لا تعلن قريشي موت المشاعر الطيبة بفعل ازدرائها، بعد اختصارها في محاملها الآدابية، أو بفعل الاستيلاء عليها عبر جعلها مشهدية للغاية. تقول إن وضع تلك المشاعر اليوم يدفعها الى البيان في بعض الأحيان، أكان بفجاجة، أو بشكل قد يناقضها، لكنها، في الحالتين، هي تريد المرور والتعبير عن وجودها.
تضرب الفيلسوفة أمثلة عديدة، وعلى رأسها تحرك الفرنسيين ضد مقولة “اننا في حالة حرب”، التي راجت مؤخراً في فرنسا بعد الاعتداءات الإرهابية عليها. فقد رفض المواطنون تلك المقولة، ورفضوا الامتثال لها، وذلك، من تلقاء غضبهم، أو سخطهم. فلم يقعوا في أفخاخ الريبة المجردة أو الخوف المطلق، بل استندوا الى أحاسيسهم، معارضين تعميم الحرب عليهم. فـ”ما علينا أن نستيقظ بل أن نحس”، تكتب قريشي، كأن الإحساس الطيب هو الرفيق المخلص للنوم.
المدن