ميزان قوى جديد!
ميشيل كيلو
من هجوم فاشل يشنه النظام في دمشق إلى هجوم آخر أشد فشلا، يتعاظم ميل ميزان القوى الداخلي إلى وضع جديد لصالح طرف الصراع الآخر: شعب سوريا المقاوم.
ومع أن كثيرين قالوا منذ بدء ما صار يعرف بالأزمة السورية إن موازين القوى التي كانت راجحة لصالح النظام لن تستمر، وإن هناك قوة ستتقدم وأخرى ستتراجع، ما دام الشعب مصمما على انتزاع حريته، ولأن العنف لا يصلح وسيلة لمعالجة مشكلات سياسية واجتماعية واقتصادية متراكمة ومعقدة، فإن أهل القرار ركبوا رأسهم وواصلوا تجاهل الواقع وانتقلوا من معارك استخدمت فيها البنادق، إلى أخرى قوامها المدافع، فثالثة زجوا فيها بوسيلة جديدة هي الدبابات، وصولا إلى مرحلة رابعة وأخيرة أضافوا فيها إلى أسلحتهم السابقة الطيران الحربي: دون جدوى أو نتيجة يمكن أن تحتسب لهم أو تعتبر في صالحهم.
لم يكن الأمر يتطلب كثير ذكاء، فالشعب السوري أجبر على الدفاع عن نفسه، مع ما تطلبه ذلك من تعبئة طاقاته وزيادة قدراته وحماية نفسه وممتلكاته، علما بأن موارده كبيرة وتستطيع بشيء من التنظيم وحسن الاستخدام إقامة وضع لا قبل للنظام بمواجهته، مهما نظم موارده المحدودة، فالفارق العددي بين جهتي الصراع هائل، والانتشار الجغرافي الشعبي عامل حاسم إلى أبعد حد، بينما انتشار النظام نقطة ضعف قاتلة، على الرغم مما لديه من أسلحة متقدمة، وتفوق تقني وتخطيط مركزي موحد.
وقد كتب سوريون كثيرون عن هذه النقاط، وشخصوا ما يمكن أن يترتب عليها من نتائج، وتنبأوا بأن النظام مهزوم لا محالة في حال عبأ المواطنون قدراتهم ونظموها وزودوها بما يلزم من أسلحة، مهما كانت قليلة التقدم تقنيا، وقالوا إن النظام سيرتكب غلطة لن يستطيع إصلاحها إن هو خاض معركة مفتوحة ضد شعب غاضب ومصمم على الحرية كشعب سوريا، بلغ نقطة اللاعودة في استعداده لفعل كل ما هو ضروري من أجل استعادة ما كان لديه خلال فترة تاريخية سبقت تكوين وقيام دولته الوطنية، خاض خلالها معارك متنوعة الأشكال ضد جيش فرنسي يشبه جيش النظام الحالي، من حيث تفوقه التقني وعجزه عن كسر شوكة المواطنين السوريين والمقاومة الوطنية، وفي ظل سيادة حافز معنوي يوحّد الناس، كان بالأمس الاستقلال عن الفرنسيين، وهو اليوم القضاء على النظام القائم وصولا إلى الحرية وإعادة بناء الدولة الوطنية.
حشد النظام كل ما لديه من قوة، وعبأ جماعاته معنويا ووعدها بالغنائم، وأطلق يدها في المواطنين، وبثت الفوضى بين صفوفهم لبلبلتهم وإفشال مقاومتهم وتفتيت وحدتهم وتدويخهم وتحويلهم من أكثرية مجتمعية متضامنة إلى أشتات ممزقة. لكن النتيجة كانت عكس ما أراده: فقد تم تنظيم المقاومة تنظيما متعاظما وما صحب ذلك من ميل متزايد، بطيء لكنه ملحوظ، في ميزان القوى لصالح الشعب. وليس سرا أن إلقاء براميل المتفجرات على بيوت السكان يعد إقرارا بأن النظام يواجه عدوا وحيدا هو الشعب، وأن انتقامه الأعمى منه صار دليل يأسه من قهره وكبح التطور الذي يتخلق منذ عدة أشهر، وأدى إلى توسيع دوائر السوريين المشاركين في المقاومة، وتقلص قدرات وطاقات الموالين للنظام من مدنيين وعسكريين، وتقلص رقعة ما يسيطر النظام عليه من أرض الوطن.
ثمة علامات تؤكد أنه لا سبيل بعد اليوم إلى وقف هذا التطور، الذي سينتهي بهزيمة النظام، وأن فرص الحل غير العسكري للصراع، الذي رفضته السلطة بعناد وإصرار، تتراجع، وأن الشعب نجح في تعبئة قواه على الرغم من أنه انطلق من نقطة الصفر، بينما كان النظام قد عبأ قدراته إلى نقطة الذروة، وأن السوريين لن يهزموا بعد الآن، ليس فقط لأن مناطق كثيرة تحررت من سطوة السلطة وممثليها، بل لأن فارق الروح المعنوية لدى الطرفين صار عاملا حاسما في المعركة، وكذلك فارق الإيمان بعدالة القضية التي يقاتلان من أجلها، فضلا عن الحامل الاجتماعي الذي يعتبر المقاومة جزءا تكوينيا منه، يرتبط أمنه ووجوده به، بينما يرى منذ وقت طويل في جيش السلطة غازيا لا مفر من صده بأي ثمن، بمعونة مقاومة وطنية وشعبيه هو منها وهي منه.
خرج النظام من حوران في الجنوب إلى دير الزور في الشرق وإدلب وحلب في الشمال، كما أخرج من مناطق واسعة نسبيا في قلب محافظة اللاذقية، التي يعتبرها فناءه الخلفي ونقطة قوته، مع أنه صار يتحرك فيها أيضا ويده على الزناد، ويعتبرها منطقة غير آمنة، ويرى في معظم مواطنيها أعداء محتملين أو مؤكدين. في الوقت نفسه، صار من الصعب ضبط جيش النظام دون تهديد ضباطه وجنوده بالقتل، إن هم ترددوا في تنفيذ أي أمر يصدر إليهم. يفسر هذا لماذا تكاثرت عمليات الانشقاق عن السلطة والالتحاق بالمقاومة، وتكاثرت بدورها الإعدامات التي أخذت تطاول صفوف الموالين أيضا، ولعل أعظمها خطورة مقتل كبار ضباط خلية الأزمة، الذين تمت تصفيتهم بدم بارد في عملية قيل إن النظام هو الذي رتبها، مع ما واكب هذا كله من تزايد النقد لسياسات الحلقة الأسدية/ المخلوفية الضيقة، التي تربط وجود البلاد والعباد ببقائها في السلطة، على الرغم من أنه لم يبق لها من وظيفة ممكنة أو محتملة غير ممارسة القتل واستباحة حياة المواطنين.
قطعت أزمة سوريا الشوط الأكبر باتجاه الحل، ودخلت في مرحلتها الأخيرة، التي ستتطلب الكثير من الضحايا، لكنها لن توهن عزيمة وتصميم الشعب المقاوم أو تفت في عضده، بينما تفضح تصريحات كبار المسؤولين حجم الصعوبات التي يواجهونها، وتبين أن نهاية المعضلة التي كانوا يروجون لها ليست قريبة، وأن ما كانوا يلخصونه بكلمة «انحلت» أو: «خلصت» لم يكن غير كذب صريح، وأن المقاومة تهد حيلهم وتقوض خططهم وتطردهم من مواقعهم واحدا بعد آخر، وتقضم وجودهم الذي يتأكل باطراد لا سبيل إلى وقفه، وسيؤدي حكما إلى انهيار النظام.
قبل أيام سألني سائق تاكسي باريسي من أصل أفريقي، عندما علم أنني سوري: هل رئيسكم مجنون؟ ألا يعلم أنه لا توجد قوة تستطيع قهر شعب يثور لكرامته ومن أجل حريته؟ كم أتمنى أن يتوقف أنصار بشار الأسد أمام هذا السؤال وأن يجيبوا عنه بنزاهة إنسانية وضمير وطني!
الشرق الأوسط