ميسان الجسر المعلق
حسين سليمان
لماذا أنت حزينة؟ سوف يعيدون بناءه مرة أخرى، إلى مسافة أطول، ويجعلونه عريضا واسعا.
كأنهم وضعوا أسفل العضادتين عبوات ناسفة لكنها لم تنفجر، والذي انفجر هو ذلك الجانب الذي لا نصل إليه، فجعله الانفجار يميل قليلا، وينحدر ناحية المياه التي كانت تشتعل بأضواء الفلوريسان،
التي كانت تشتعل بأضواء الساهرين حين يهبط الليل.
كان مائلا قليلا، بحكم الزمن والطقس السيىء الذي دفعنا كي نبتعد وننأى.
وكنت أراه من بعيد يغطي مساحات شاسعة، وتنعكس تلك المسافات في عيني، مما يجعلني أحيانا، حين تهب رياح الصيف التي تذكرني بكِ، أرفع منديلا صغيرا أمرره على النافذة التي أفتحها لأرى حبك غير المنتهى.
كان أيضا قديما وبحاجة إلى ترميم في المناطق العليا عند الأبراج التي تحمله، وإلى تقوية الكوابل التي في كل مرة في كل مرة تهتز فيها تصيبك قشعريرة حنين،
نسمعها مع هسيس الشجرتين اللتين ليستا في أي مكان، غارقتين في مياه لا صوت لها وأنت تقفين بعيدة.
يقولون أيضا إنه بحاجة إلى تحسين، كأنه يريد أشياءه التي لم نعد نملكها، وتبقى بالنسبة لنا مجهولة لا نعرفها.
من أجل كل ذلك لا تحزني.
في الصورة، الغيوم ليست مكفهرة، ويخرج منها طائران غريبا الشكل، علينا أن نبقى صامتين كيلا يتكدر العالم المجاور، إنه يظهر حينا ويختفي حينا آخر. نسير إليه خطوة خطوة اجعليها خفيفة وساهمة تنظرين نحو ذلك الغيم الأفقي المنحدر مع شعاع الشمس الأحمر، إنه كما تعلمين يا بشرى الغياب حين يهبط على الدير وتتنفس حينها البلاد ظلال سمرتك.
كنتِ على مهل تمشين فوقه مثل راقصة، لكنك لست كذلك إلا لأن النهرتحت قدميك يدمدم بخفوت ونشوة وتحسبينها قشعريرة، فترفعين كم القميص قائلة: شوف شلون صار بجلدي؟!
وأحسبها نعمة أن ألمس صفحة المياه وأسمع الرتم يولده جسدك حين ألمس إهابه.
أتوقف لأسأل، هل الرنين من الجسر، أمن المياه، أم من الشجر، أم هو التوافق الذي يفعله جسدك مع كل هؤلاء؟
في آخر يوم، حين انتهى بيننا كل شيء،
رجوتك أن نذهب
في رحلة أخيرة إلى الجسر،
نمر به كعاشقين،
نعبره مرتين،
مرة من أجلك ومرة من أجل الدير،
لأنني، كما تعلمين، بعد ذلك اليوم لم أمر به، ولم أر تلك المدينة الغامقة الملونة طاحونة الذكريات ماذا جرى لها؟ تدور وتدور وتأتي بصورك الكثيرة، تحضر هنا وهناك.
قولي لي هي في المياه، فأنظر وأنا بعيد حين أمر بجانب أي مياه، أبحث عنك فأعلق من أجلك الجسور، كل الجسور كي تظهرين ونعبر معا تلبسين الفستان الأزرق المنقط..لا، أنا لا أعرف الألوان، إنما كنت تلبسين الفستان الذي، هو، كان حين ندخل الجسر يرتفع، من الأسفل، ويخلق دوامات نهرية تدورين بها الرؤوس، والعيون الجاحظة لا تصدق جمال الدير وفراتها الذي لا ينبع من آرارات، هو النهر الذي يبدأ فيها وينتهي فيها.
أرى إلى أي مياه وأي جسر على أنهما جمال الدير المعلق. ثم في الليل تنطلق ضحكتك التي تسافر مع النسيم وتعبر التخوم التي نراها ونحن قادمون من حلب، من الشام، أضواء معلقة في السماء، صغيرة، بالكاد ترى، ثم تهبط على نحو الفجاءة، حين نصل،
وتظهر لنا كما العشق من أول نظرة،
ونحن إذ نمر بلوحة عريضة مكتوب عليها، دير الزور ترحب بكم، ليست لوحة مقامة في مكان، إنما في القلب الذي لففتِه وقدمتِه لي ذكرى وكانت عيناك العسليتان العربيتان /التركيتان…ترا الدير مليانة عيون لا تنبع من مياه الأعماق بل من القلوب الشاردة التي إلى الآن لم تجد ضالتها.
لا يأتي الليل من غياب الشمس، بل يرسله القمر الذي هو جسر معلق في الفضاء وأصبح في خيالنا، نرفع رأسينا نحوه ولا نراه بل نرى وجهينا،
كيف العيون تنظر إلى العيون، وكيف تفكر وكيف تشعر، وحملتِ يدي تضعينها تحت نهدك، قائلة، هذا هو قلبي فخذه معك!
كان زقاق الجسر ينبض تحت الأقدام الحافية،
فيه الأبواب والنوافذ شبابيك الدير وبناتها وشجر الحور وشارع ‘ستة إلا ربع شارع العشاق’ شارع المجانين الذين لا يدرون أين يذهبون للبحث عن حبيبة.
يسمع من خلال المنافذ غناء ‘محمود اسماعيل’ وراء آلته البيانو، لا يترك العزف عليها: إن هلهلتي هلهلنالك – وكانت جدتنا حين نعود الى المنزل،
تضع سبحتها في حضنها تتلو أسماء الله الحسنى وتسألنا: كيف كانت طلعتكم، وكيف كان الجسر؟ من زمان، حيل وميل مشتاقة له، منذ ثلاثين / ترا الجسر كان ثورة على الفرنسيين وكنا بين الشامية والجزيرة…. ولا أفهم ما تقصد لكنني أدرك أن الجسر المعلق هو رجل ملثم فوق ذلوله يقطع البوادي والبراري يريد أن يصل إلى مكان، سهونا عنه وفقدناه ولم نعد نتذكر ماهو.
يعيدني قلبك إلى ذلك المكان،
تعيدني عيناك وهما الوصل بين ضفتي النهر
رابط لي كي أصعد من الحلم وأدخل دخول النائم إلى المدينة البعيدة الساهية الغريبة التي يأخذها الليل إلى جوفه ثم يرجعها مع أحلام هي خطوة واحدة وأخطوها كي أصل، وأدخل، فوق الأدراج، وأنتبه وأستيقظ من النوم الذي جعلني أفقدك.
القدس العربي