ميشيل كيلو خائف… على بلده
غسان سعود
يوافق المعارض السوري ميشيل كيلو على بعض روايات السلطة السورية عن المسلّحين، ويخشى المستقبل في ظلّ تمسّك السلطة بالحلّ القمعي، الأمر الذي سيحوّل أقلية المؤمنين بالسلاح وسيلة لإسقاط النظام إلى أكثرية. وهذا يهدّد وجود البلد ووحدة شعبه
كلما طُرق الباب، توتر المنزل، وتمتمت صاحبته صلاة، واعتصر القلق فوق قبضة الباب. أن تكوني زوجة ميشيل كيلو يعني أن ينتظر خروجك من عند البقّال غريبٌ ليتحقق مما يحويه التفاح أو الرمان أو الموز الذي اشتريته، وأن يطرق باب بيتك فجأة غريبٌ يقتحم حياتك الخاصة، ويعبث بأغراضك، مصادراً أي شيء يشتبه فيه ويغادر.
منذ اعتقل كيلو أول مرة في السبعينيات، مروراً باعتقاله عام 2006 بحجة توقيعه إعلان بيروت ـــــ دمشق، تتردد في رأسها عبارة: «زوجك متهم (= مدان) بـإضعاف الشعور القومي والنيل من هيبة الدولة وإثارة النعرات المذهبية». كأنهم يقولون لها: توتري أكثر، ولن تكفيك لتشغلي رأسك بغير القلق ـــــ ما دام زوجك ناشطاً سياسياً – شرفة المنزل المطلّ على «جناين الورد» قرب دمشق القديمة، ولا تفاؤل عيني زوجك.
يكاد الدم ينفر من عروق ميشيل كيلو. تضع زوجته القهوة على طاولة الصالون الصغير المسوّر بالكتب، فيما هو يتذكر انفعالها قبل بضعة أيام، وتنبّهه إلى تنفيسه عمّا يختزنه مرة في مقال ومرات في دردشة، فيما هي تعض على جرح الطوارئ حتى تحرير… فلسطين. من النهاية سأبدأ، يردّد كيلو بانفعال: «يقولون لا إصلاح بلا أمن. ونقول لا أمن بلا إصلاح».
رغم تأكيده أن الاحتجاجات شجرة تعب مع الآخرين في زراعتها، يشير إلى دهشته لحجم ما يحصل ونوعيته ووعي المشاركين. «كاد شباب الفايسبوك يقتلون أنفسهم بحثاً عن بو عزيزي. لم يتوقعها أحد من الريف رغم انتباه البعض إلى سماح النظام (من باب الغباء) لذراعه الاقتصادية بتقويض قاعدته الاجتماعية المتمثلة في الريف». وبحسبه فإن الاحتجاج زحف من القرى البعيدة إلى المدن الصغيرة والمتوسطة فالأحياء المحيطة بقلب العاصمة دمشق. «هذا زمن عربيّ جديد. غير صحيح أن هناك من هو معصوم. غير صحيح أن نظام مبارك كان أوهن من النظام السوريّ. وغير صحيح أن عنوان الممانعة يعوض الشعوب عن حقوقها. يريد الناس حرية وعدالة اجتماعية».
يعرض كيلو أدلّة التواصل والتنسيق مع المحتجّين في أكثر من منطقة، مشيراً إلى تلاقي المثقفين مع المحتجين على الإصلاح، وانفصالهم عنهم حول إسقاط النظام. فمطلب المحتجين الأخير يحمل، بالنسبة إلى كيلو، «عواقب فادحة تهدّد وجود البلد ووحدة شعبه». لكن كيلو لا يقطعها مع المحتجين. يقول إن التغيير في النظام يمكن أن يوصل المحتجين في النهاية إلى نظام يختلف عن الذي يحكمهم اليوم فيكونون قد أسقطوا النظام الحالي ـــــ بما هو نظام لا رئيس ـــــ وأتوا بنظام جديد.
هذا في ضفة المحتجين والمثقفين. في الضفة المقابلة، يتابع كيلو: «هناك سلطة ترفض الإصلاح الجدي والتغيير، وتصر على أن تعيد بنفسها إنتاج نظامها، متّكلة على الهيبة البوليسية. يتناسون أن القضاء على 500 مسلح داخل مدينة حماه قبل مجزرتها الشهيرة استغرق ثلاث سنوات، وانتهى بتلك المجزرة في بداية الثمانينيات. يتجاهلون خسارتهم يوماً تلو آخر علاقاتهم الإقليمية والدولية، ولا يفكرون بطبيعة العلاقة التي ستربطهم غداً بشعبهم إذا نجحوا اليوم في قمعه».
يخشى كيلو انهيار كل شيء، وبحسبه فإن مضي السلطة في استراتيجيا «الحل الأمني» يسحب أوراق التفاوض السياسي من أيدي المثقفين، ويعزز احتمالات الفوضى. وحرفياً يقول ابن اللاذقية الدمشقيّ: «هناك اليوم من لجأوا إلى السلاح في مواجهة السلطة. لكن هؤلاء لا يزالون أقلية وسط المحتجين. أما إذا استمرت السلطة على نهج العنف فسيصبحون أكثرية». وبحسب أرقام كيلو فإن نحو 13 ألف سوري «يجاهدون» اليوم في العراق سيكتشفون أن بلادهم أولى بخدماتهم، فضلاً عن حدود مفتوحة لكل أشكال التهريب مع العراق والأردن ولبنان وتركيا.
في النتيجة، ليس في هذا المنزل نيات مغامرة بالوطن ووحدة الشعب. ثمّة رجل يلحّ في طلب الحوار منذ أكثر من عشر سنين. وفي اعتقاده أن الفاعلين بين المحتجين ليسوا أغبياء، ولن يجرّوا البلد إلى الخراب إذا قدمت السلطة حلّاً يقنع الشعب، فتنتقل من محاولتي الضحك عليه إلى تقديم ضمانات تغييرية جدية، أول مظاهرها الإفراج عن التعددية الحقيقية بدل تعددية الواحد الممثلة بالجبهة الوطنية التقدمية التي تضم وجوهاً حزبية متعددة لعملة سياسية واحدة. ويلفت كيلو هنا إلى نقطة مهمة: أقرب المسؤولين السوريين من النظام، وحتى بعض عناصر النظام يعلنون اليوم تأييدهم لإلغاء قانون الطوارئ في البلاد والمادة الثامنة من الدستور، ويؤيدون إقرار قانون أحزاب وإعلام وإجراء انتخابات نيابية وبلدية. وبالتالي يعترف هؤلاء بأن أسس النظام القائم لم تعد بنافعة ولا بدّ من التغيير.
بعد أربعين عاماً، قال كيلو لمستشارة الرئيس السوري بثينة شعبان، في دردشتهما قبل نحو أسبوعين: لا يمكنكم القول أو حتى التفكير أن لا شيء يوجب التغيير بالنسبة إلى النظام المستمر في إدارة البلاد تماماً كما كان يفعل قبل أربعة عقود. قال لها أيضاً إن مصر عائدة إلى العالم العربي لتملأ فراغاً حاول الإيراني والتركي أن يملآه في غيابها، وثمة أزمة عاصفة محلياً اجتماعية ـــــ اقتصادية ـــــ ولا بدّ من خيارات داخلية وخارجية جديدة.
باختصار، «تعاني سوريا اليوم أزمة تكوينية تتعلق بتوزيع الدخل الوطني، العدالة الاجتماعية، الحرية والمشاركة السياسية. وهذه جميعها لا تحل بالقمع. الأمن يقبض على قاتل وسارق ومهرب لا على جوعان يريد أن يأكل. هذه تعالج بتوافقات وشراكة جديدة بين السلطة والشعب ينتج منها بناء أسس جديدة للحياة العامة».
ينتقل كيلو إلى كنبة أخرى. أصابعه، كفه، ذراعه لا تهدأ أثناء حديثه. الانفعال سمَته. كل التجارب التي سبقت كانت تمهيداً، اليوم يعيش القلق الحقيقيّ على وطنه. يعجز عن فهم العقل القمعي. يقوم إلى كتب ومقالات تمتلئ بالعبر، من تجارب مكونات الاتحاد السوفياتي إلى مصر واليمن. تتسلل السوداوية إلى عينيه: «كل ما دق الكوز بالجرة يصل رجال الأمن، احتمال وارد جداً أن يقرروا اليوم أو غداً جرّنا جميعاً إلى السجون».
دمشق ـــــ جناين الورد. «حينما ترى «ساعة» معطلة في الساحة العامة لمدينة فاعلم أن «زمنها» أيضاً معطل لا ساعتها فقط»، قالت ذات يوم ابنة دمشق غادة السمّان. عفواً، يقول مثقفو دمشق.
الأخبار
تعليق واحد