ميشيل كيلو وقضية مسيحيي المشرق: الخوف من الفتنة
سليمان يوسف
كتب ميشيل كيلو مقالاً بعنوان «مسيحية قلقة» في جريدة «السفير» بتاريخ 31-8-2010 جاء فيه «إن الإشكال الأكبر الذي تواجهه المسيحية العربية اليوم يأتي من أخطاء كنائسها: من فهمها للواقع ودورها فيه». وقبل أسابيع كتب مقالاً آخر في الجريدة ذاتها 13 آب الماضي، يصب في الاتجاه ذاته بعنوان «دعوة المسيحية إلى العقل»، نقتبس بعض ما جاء فيه: «يبدو أن الكنائس المسيحية لا تفهم ما يجري، ولا تفكر بلعب أي دور جدي فيه، وأنها تفوت السانحة الفريدة على الجماعة التي تنتمي إليها، وهي في غالبيتها من المسلمين، وعلى نفسها، وتفضل البقاء حيث هي: إلى جانب الظلم والاستبداد، والرقص على أشلاء الأموات المظلومين… ألا يرون – مسيحيو سوريا – ما وقع للمسيحيين في العراق، حيث كان ارتباطهم بالسلطة المسوغ الذي استخدمه مجانين الإسلاميين للقــضاء على وجودهــم في بلاد الرافدين؟… إنني أدعو العلمانيين، من مسيحيي المولد، إلى فتح نقاش أو عقد ندوة حول موضوع وحيد هو سبل إعادة المسيحيين إلى موقعهم الصحيح من الجماعة العربية/ الإسلامية، وإلى دورهم الثقافي/ المجتمعي في خدمتها، بغير ذلك، لن تبقى المسيحية في هذه المنطقة، وسيكون مصيرهم كمصير النظم التي يخدمونها..».
قطعاً، لا نشكك بحرص الأستاذ كيلو على بقاء المسيحيين في أوطانهم الأم وعلى ضرورة تمتعهم بكامل حقوق المواطنة ومساواتهم في الحقوق والواجبات مع باقي شركائهم في الوطن السوري. لكن المبالغة في التعبير عن هذا الحرص وربما أمور أخرى أوقعته في مغالطات سياسية وتاريخية وجعلته يتحامل كثيراً على المسيحيين المشرقيين وأبعدته عن الموضوعية والواقعية في تناوله ومقاربته للحالة المسيحية السورية والمشرقية عموماً، في هذه المرحلة المصيرية التي تمر بها شعوب المنطقة. لقد ذهب ميشيل بعيداً وبعيداً جداً في تحليلاته وقراءاته لقضية مسيحي المشرق وأسباب محنتهم المزمنة، التي تعود في جزء منها الى الموروث الاجتماعي والثقافي التاريخي المتخلف لشعوب تقدس التاريخ وتعمل للماضي أكثر من أن تعمل لحاضرها ومستقبلها. وفي جزء آخر تعود الى «اللامساواة» في الأيديولوجيات، الدينية والسياسية والقومية السائدة في المجتمعات العربية والإسلامية، حيث ما زالت دساتير وتشريعات هذه الدول تتضمن قوانين ومواد تميز بين المواطنين على أساس الدين، الأمر الذي حال ويحول دون المساواة التامة بينهم أمام القانون، ويمنع خلق ثقافة وطنية تجسد مفهوم التعايش المشترك في المجتمع. فهذه الإيديولوجيات المتكلسة كرست مفهوم الأقلية والأغلبية وعمقت التمايزات داخل المجتمع، وبالنتيجة عطلت عملية الاندماج المجتمعي والوطني بين مكونات المجتمع الواحد. يبدو جلياً، أن كيلو أقحم موقفه السياسي والأيديولوجي من الأزمة العراقية في قضية مسيحيي العراق. فمسيحيو هذا البلد المنكوب ووفق تقارير لجان التحقيق العراقية، وقعوا ضحية أجندات سياسية ومشاريع فئوية وطائفية لقوى وميليشيات، عربية وكردية، متنفذة في الساحة العراقية. كذلك هم ضحية أجندات طائفية لمجموعات اسلامية محلية وإقليمية متطرفة ومتشددة، من الأوساط الاسلامية الموالية لصدام حسين وليست من أوساط المعارضة لحكمه، كما ذهب كيلو، الذي قدم من حيث لا يدري غطاءً أو مسوغاً سياسياً للمجموعات الاسلامية – أو لـ«شياطين الاسلاميين» وفق تعبيره – لقتل المسيحيين الآمنين في العراق، لأسباب لا علاقة لها بالمطلق بالموقف السياسي، يل لأسباب تتعلق بعقيدتهم الدينية وبهدف تهجيرهم واقتلاع جذورهم من أرض الرافدين، موطنهم التاريخي. ألا يخشى كيلو من أن يأخذ (شياطين الاسلاميين) المزروعين بكثرة في كل المجتمعات العربية/ الاسلامية من كلامه مسوغاً وذريعة لاستهداف المسيحيين في سوريا، إذا ما تسببت أزمتها المتفجرة في حصول فوضى وفراغ سياسي وأمني؟
يعيش في سوريا أكثر من مليوني مسيحي يتحدرون من أصول عرقية وإثنية مختلفة، آشورية (سريانية/ كلدانية)، ارمنية وعربية. يتوزعون على 12 مذهباً كنسياً، لم يتهاونوا في انجاز الاستقلال الوطني لسوريا وساهموا وما زالوا بفعالية في بناء الدولة وازدهارها. رفضوا تأسيس أحزاب ومنظمات مسيحية خاصة بهم، إذ لا حاجة لهم بها، ما دامت أجندتهم وطنية وتطلعاتهم هي تطلعات كل السوريين. كانوا المبادرين الى تأسيس الحركات الوطنية والأحزاب الديموقراطية واليسارية، قديمها وحديثها ويكاد اليوم لا يخلو حزب سوري من العنصر المسيحي. المسيحيون لم ولن يكونوا يوماً خدما لهذا النظام العربي أو ذاك. في سوريا، كما في كل الدول التي تحكمها أنظمة استبدادية فاسدة، المطبلون للنظام والمستفيدون منه هم من كل الطيف الديني والمذهبي والاثني والاجتماعي السوري.
في ما يخص حلقات الرقص في حي باب توما، التي أشار اليها ميشيل والتي يمَجَّد خلالها النظام القائم وتعظم رموزه، لا تقتصر على الأحياء والمناطق المسيحية وحدها. كما أن المشاركين في مثل هذه الحفلات الماجنة هم من كل الطيف الديني والمذهبي السوري. ثم إن الكنائس السورية لم تكن بعيدة أو سلبية من الانتفاضة السورية بالدرجة أو الصورة التي تحدث عنها ميشيل. فالكهنة في الكنيسة السريانية، أم الكنائس السورية، في القامشلي والحسكة خصصوا عظة يوم الأحد 7 آب الماضي للحدث السوري، معلنين «التأييد التام للمطالب المحقة والمشروعة للشعب السوري في الحرية والديموقراطية والكرامة وأكدوا رفض الكنيسة تشكيل لجان شعبية للتصدي للمتظاهرين المناهضين للنظام. كما أن البطريرك (زكا عيواص الأول)، رئيس الكنيسة السريانية الأرثوذكسية في العالم الذي يأخذ من العاصمة دمشق مقراً له، بعث برسالة مهمة الى الرئيس بشار الأسد طالبه فيها بـ«زيادة مساحة التعاطي مع الحريات العامة والكرامة والمواطنة، بما يُسهم في إغناء تعددية ثقافاته وأطيافه،.. وأن تتوافر لهم التشاركية في الممارسة الديموقراطية لحرية المعتقد، والتعبير عن هواجسه ومكنوناته، التي تحقق المزيد من الكرامة والمواطنة المنشودة».
إزاء الانتفاضات الشعبية التي تشهدها الدول العربية، ليس من الموضوعية والواقعية بشيء تجاهل مخاوف وقلق المسيحيين من البديل «المجهول» الذي قد تأتي به هذه الانتفاضات. في مصر، استبشر الأقباط خيراً بالانتفاضة التي أطاحت الرئيس مبارك. لكن الحقيقة لم يطرأ أي تغير ايجابي على وضعهم القانوني لجهة حقوقهم وحرياتهم الدينية وظروفهم الأمنية، لا بل تضاعفت الاعتداءات المنظمة عليهم وعلى كنائسهم التي تقوم بها مجموعات اسلامية بتواطؤ من الأجهزة الأمنية.
عن مخاوف المسيحيين، كتب الدكتور (محمد السماك) مقالاً مهماً بعنوان «مسيحيو الشرق والانتفاضات العربية» نشر في جريدة الاتحاد الإماراتية الجمعة 2 أيلول الجاري يقول فيه: «.. أما الوجه الثاني للحيرة المسيحية فينطلق من عدم وجود بديل واضح للنظام الاستبدادي الذي ينتفض الناس للتخلص منه. وتصل الحيرة إلى حد القلق من احتمال أن تشكل هذه الانتفاضات رافعة لقوى إسلامية متطرفة للوصول إلى السلطة. لهذا القلق ما يبرره، بل إن إنكاره هو تجاهل لحقيقة ساطعة. ولا يكفي للمسلمين أن يقولوا للمسيحيين لا تقلقوا حتى يتبدد القلق، بل لا بد من عمل ما يساعد على إزالته. ويضيف «يجب تفهم طبيعة ومشروعية القلق المسيحي في ضوء تجارب الأحداث العدوانية التي عرفها العراق ومصر – إلى حد ما – والتي شعر المسيحيون بأنهم كانوا هدفاً لها. إن نجاح الانتفاضات لا بد أن يتوّج بوضع عقد اجتماعي إسلامي – مسيحي عربي، يقيم الدولة الوطنية ويحترم الحقوق الدينية ويرسي قواعد المساواة في المواطنة».
ما يخيف ويقلق المسيحيين السوريين هو من أن ينجر بلدهم الى فوضى وفتنة داخلية وإلى نزاع مسلح على السلطة. بعض أوساط المعارضة تقول بأن النظام هو من يريد الزج بالمسألة الطائفية في الأزمة الراهنة للإساءة الى الانتفاضة وكحبل نجاة له، ربما كان ذلك صحيحا، ولكن هذا لا يهم، المهم أن شبح الفتنة الطائفية بدأ يخيم على البلاد، بصرف النظر عن الجهة التي ستلعب بها.
لا حل لمشاكل المسيحية المشرقية خارج مجتمعها. ولا جدال في ضرورة أن تطور المؤسسات الكنسية ذاتها وتنمي علاقاتها مع الآخر والارتقاء بها الى مستوى تكون فيه قادرة على مواكبة متطلبات الحياة الوطنية والمدنية. لكن بدلاً من أن يوجه الأستاذ كيلو النصح للمسيحيين المغلوب على أمرهم ومطالبتهم بالعودة الى موقعهم الصحيح من الجماعة العربية/ الاسلامية والى دورهم الثقافي/ المجتمعي في خدمتها، كشرط وحيد لبقائهم في هذه المنطقة، كان الأجدر به أن يطالب النخب ومنظمات المجتمع المدني، العربية الاسلامية، للقيام بمبادرات جدية لتحصين وتعزيز الوجود المسيحي في أوطانهم، والقيام بكل ما من شأنه أن يطمئن المسيحيين لمستقبلهم في هذه المنطقة ويحد من هجرتهم منها.
قبل أيام تأسس في العاصمة الأردنية عمان «التجمع العربي للتصدي لتهجير المسيحيين»-. فقد أكدت العديد من الدراسات الاستراتيجية أن بقاء المسيحيين في منطقة الشرق الأوسط يتوقف على مدى تحول بلدانها الى دول مدنية ديموقراطية تفصل بين الدين والسياسية، يسودها العدل والقانون، وتحكم وفق دساتير وطنية تضمن الحريات الفردية والعامة والاجتماعية والدينية للجميع، يتمتع فيها المسيحيون بكامل حقوق وواجبات المواطنة من دون تمييز أو تفضيل. الوصول الى دول مشرقية بهذه المواصفات هو بالدرجة الأولى مسؤولية الغالبية العربية المسلمة. لأنه لا يمكن للأقلية مهما امتلكت من قدرات ومؤهـلات مادية ومعنــوية أن تفرض على الأغلبية ما لا تريده وما لا ترغب به، وإذا هي (الأقلية) تمكــنت من ذلــك في ظرف معين فهي لن تكون أكثر من حالة استثنائية عابرة.
[ باحث سوري مهتم بقضايا الأقليات
السفير