ميلوش فورمان: صدام السينما والرواية/ صبحي حديدي
رحل المخرج السينمائي التشيكي ـ الأمريكي ميلوش فورمان (1932 ـ 2018) بعد أن خلّف سلسلة أعمال رفيعة الشأن في الفنّ السابع؛ بعضها يرقى إلى مستوى القفزات النوعية الكبرى في الشكل والمحتوى («طيران فوق عش الوقواق»، «أماديوس»، «راغتايم»)؛ وبعضها الآخر يقارب الواقعية الاجتماعية من منظورات الرمز الكوميدي المبطن، الذي لا يفضح عناصره إلا بعد اختمار بطيء في الوجدان الشعبي العمومي («غراميات شقراء»، «حفلة رجال الإطفاء»، «إقلاع»). ولقد كان، على غرار أسماء أخرى كبيرة في سينمات «المعسكر الاشتراكي» سابقاً، طريد المؤسسة الرسمية التي لم تقبل به إلا اضطراراً، وانحناءً أمام نجاحات خارجية في مهرجانات دولية.
لكنّ فورمان يظلّ نموذجاً استثنائياً في ميدان دراسي ونقدي شائك، هو العلاقة بين النصّ الروائي والفيلم؛ وكيف للأوّل أن يُسلم القياد للثاني على أيّ نحو متكافئ، أو ينقلب إلى ضحية للاعتبارات الفنية المختلفة التي تحكم إنتاج الثاني. والمثال الأبرز، في تقديري شخصياً، ولكن استناداً إلى وقائع فعلية أيضاً، هو ذلك التنازع بين الروائي الأمريكي كين كيسي (1935 ـ 2001)، مؤلف «طيران فوق عشّ الوقواق»، من جهة؛ وكلّ من فورمان، مخرج الفيلم الشهير، ولورنس هوبن وبو غولدمان كاتبَيْ السيناريو، من جهة ثانية. لقد رفض كيسي النصّ السينمائي، وانتقده بشدة في حوار شهير نشرته «رولنغ ستون»، بل ذهب إلى حدّ الدخول في معركة قضائية مع جهة الإنتاج، ثمّ أعلن أنه لن يشاهد الفيلم أبداً، وقيل بالفعل إنه رحل متمسكاً بهذا القرار.
عناد كيسي كان لافتاً، ومثيراً لاستغراب الكثيرين، بالنظر إلى النجاح الهائل الذي حققه الفيلم عند إنجازه في سنة 1975؛ إذْ حصد خمسة أوسكارات دفعة واحدة: الفيلم، الإخراج، الممثل الأول (جاك نكلسن)، الممثلة الأولى (لويز فلتشر، في دور الممرضة راتشت)، الاقتباس (هوبن وغولدمان). لكنّ كثيرين أيضاً ناصروا كيسي، على قاعدة ما لحق بعمله من اختزال للرسالة الرمزية حول مصائر الحلم الأمريكي، وإساءة تفسير لمفهوم الهيمنة المؤسساتية، وتطويع كوميدي لشخصية راندل مكمرفي المركزية؛ فانحازوا بالتالي إلى الرواية (التي تشرفت بنقلها إلى اللغة العربية، وصدرت سنة 1981 في طبعة أولى عن المؤسسة العربية للأبحاث ضمن سلسلة «من ذاكرة الشعوب» التي أشرف على تحريرها آنذاك الصديق الروائي والناقد اللبناني الياس خوري، وفي طبعة ثانية عن «الأهلية» سنة 2016). كذلك أشار بعضهم إلى نجاح الاقتباس المسرحي للرواية ذاتها، في سنة 1963، على يد ديل فاسرمان؛ وفيه لعب كيرك دوغلاس دور مكمرفي.
وجهة نظر كيسي تبدأ من معمار السرد في الرواية، الذي يتولاه الزعيم برومدن، «الهندي الأحمر» الذي يواجه أنساق اغترابه عن عوالم المصحّ النفسي الخارجية، ثمّ عوامل أمريكا استطراداً؛ بأنساق اتصال مع عالم داخلي مركّب، قناعه الأوّل هو ادعاء الصمم والبكم، والبقاء على هذه الحال حتى لحظة مفصلية من إيمانه بصديقه مكمرفي، فينطق معه فقط وليس أمام أحد سواه. وكان كيسي قد كتب مقاطع عديدة من روايته تحت تأثير عقار الـ LSD المهلوِس؛ وأخضع نفسه لعلاج بالصدمة الكهربائية لكي يتمثّل حال «الزعيم» ساعة إدخاله إلى غرفة العلاج بالصدمة، وما يجول في أذهان المرضى عند خضوعهم لأنماط علاج مماثلة. وهذا تفصيل كان له آثار بالغة على معمار الرواية اللغوي.
هل كان فورمان قادراً على بلوغ أية درجة سينمائية من تلك التقنيات السردية الروائية؛ خاصة حين تكون المفردات عند «الزعيم» أوعية تصوير سوريالية، وليست وسائل اتصال؟ وكيف للسينمائي أن يجاري الروائي في رسم شخصية بالغة التعقيد والتنوّع، مثل هذه؟ سؤال عويص بالطبع، لكنه بعض جوهر الصدام بين الفنّ الروائي والفنّ السابع. ففي وسع أنصار الرواية التذكير بالذروة الفريدة في المشهد الختامي، حين يخنق برومدن صديقه مكمرفي كي لا يصبح الأخير أمثولة لانتصار الممرضة/ المؤسسة على التمرّد والتحرر، والمساجلة بأنّ فورمان عجز عن، أو حتى تعمد عدم، تجسيد تلك البرهة. في المقابل، يساجل أنصار السينما بأنّ المشهد الأخير في الفيلم انسجم مع الخطّ الدرامي العامّ، واشتغل بصرياً على ما أنجزته الرواية نصّياً.
هيهات، مع ذلك، أن يفلح أيّ مخرج في إنجاز تمثيل سينمائي لهذه العبارة الأخاذة التي يهجس بها برومدن وهو يُحكم إطباق الوسادة على رأس صديقه الذي صيّرته صدمات الممرضة كتلة لحم كسيرة: «كان الجسد الهائل الصلب يتمسك بالحياة. لقد صارع زمناً طويلاً ليُبقي على رعشة الحياة في جسده، فتقلّب وانتفض وتدفق بكلّ جوارحه وأعضائه. وكان عليّ أخيراً أن أجثم بكلّ ثقلي فوقه وألوي ساقيه المتدافعتين بساقي، وأحشر الوسادة في الوجه. جثمتُ فوق الجسد فترة خُيّل إليّ أنها دهر طويل، حتى سلّم الجسد النابض، حتى هدأ تماماً وارتعش الرعشة الأخيرة». ويكسر برومدن السجن الرمزي الذي يمثّله المصحّ، بعد تحطيم الحاجز الشبكي الذي حاول مكمرفي تحطيمه ذات يوم، ويغادر إلى موطن قبيلته ليعانق في ذاكرته رماد التلال والغابات والطيور والشلالات، وليسترجع شجرة الصنوبر الأكثر شموخاً فوق الجبل، ويردد: «لقد غبتُ طويلاً!».
القدس العربي