مَحاضر عبد الحليم خدام: الصداقات الخطرة
جهاد الزين
قرأتُ مؤخراً كتاب نائب الرئيس السوري الأسبق بل نائب الرئيسين السوريين الأسبق عبد الحليم خدام الصادر عن “دار الشروق” عام 2010 والحامل عنوان:”التحالف السوري الإيراني والمنطقة” ولم أَجِد ما يحول في مضمونه دون توزيعه حتى داخل سوريا نفسها او ترجمته إلى الفارسية وتوزيعه في إيران.
الكتاب هو أساسأ سجل موثَّق لعددٍ كبيرٍ من محاضر الجلسات الرسمية التي كان السيد خدام يحضرها إما كرئيس للوفد السوري أو كمشارك فيه مع الرئيسين حافظ وبشار الاسد أو لجلسات ثنائية بينه كمسؤولٍ سوريٍّ أو بعض المسؤولين السوريين الآخرين وبين رؤساء دول ومراجع رسمية في المنطقة. ومع أن الكتابَ صادرٌ بعد انشقاقه عن النظام إلا انه فعلياً تأريخٌ لبعض جوانب سياسات أساسية للنظام من وجهة نظر النظام. فالمحاضر رسمية وشروحات السيد خدام القليلة نسبياً تحليلٌ بل تبريرٌ لمنطق القيادة السورية الحاكمة في الزمن الذي وُضِعتْ فيه هذه السياسات وتحديدا منذ قيام الثورة الايرانية عام 1979… هذه الثورة التي يعتبرها “أبوجمال” “الحدث الأبرز في النصف الثاني من القرن العشرين لا يتقدّم عليه من حيث الأهمية غير انهيار الاتحاد السوفياتي”.
لا بل يمكن القول أن السيد خدام في ما يعرضه في كتابه كان متقمصاً تماما دوره القديم المديد كأحد أبرز مسؤولي النظام ولم يُظهر خلال معظم التعليقات على المحاضر أي مسافة سلبية كما لو أنه كان يريد تقديم “الجو” كاملا مثلما كان خلال تنفيذ مهامه كوزير خارجية ولاحقاً كنائب رئيس… والطريف أن بعض التعليقات السلبية كانت تبدو كما لو أن السيد خدام كان يتذكّر فجأة خلال الكتابة ضرورات موقعه الجديد المنشق بعد خروجه النهائي من سوريا الى باريس إثر أحداث العام 2005. لكن الملفت هو النفَس الذي يبديه حتى حدود الإعجاب على مدى الكتاب حيال السياسة الايرانية بعد الثورة الاسلامية.
المهم أنني كقارئ استفدتُ من هذا الكتاب في فهم العديد من الخطوط الدقيقة والهامة واستكشاف المزيد من علاقات التحالف الإيراني السوري. وبهذا المعنى فإن كتاب خدام لا يقلب معرفتنا ببعض الأمور رأساً على عقب – ولم يُرِدْ ذلك أصلاً على ما أُخمِّن – ولهذا يشبه كتابه وثائق “الويكيليكس” الاميركية التي لا تخبرنا سرا استراتيجيا غير متوقع يقلب جوهرياً معرفتنا بالأمور في المسائل التي تتناولها لكنها تزوِّدنا بعدد مفيد جدا من المعلومات “الداخلية” الشخصية والسياسية والأمنية.
سأسرد نماذج من المعلومات والملاحظات التي أعتقدها هامة الدلالة وأختارها انتقائياً لا حسب تسلسل ورودها في الكتاب:
¶ يكشف عبد الحليم خدام أن المؤتمر الكبير للمعارضة العراقية الذي عُقد في لندن قبل فترة قليلة من إسقاط نظام صدام حسين في نيسان 2003 بقيادة الجيش الأميركي والتحالف الدولي قد تم – أي المؤتمر – “برعاية إيرانية وأميركية ومثّل الجانب الإيراني أحد كبار مسؤولي الإستخبارات ومعه وفد، ومثّل الجانب الأميركي ثلاثة أعضاء من المخابرات المركزية، وأشرف الوفدان على نجاح المؤتمر الذي اتخذ مجموعة من القرارات استخدمها الأميركان في تغطية الحرب”.
ماذا تعني هذه المعلومة؟ تعني فورا أن التنسيق الأميركي الإيراني حول مستقبل صيغة حكم العراق هي منذ البداية أعمق مما يظن المراقبون على سطح الأحداث؟ لا الاميركيون “بُلِفوا” في العراق ولا الإيرانيون مجرد قراصنة “سرقوا” الوضع العراقي… ولا بعد أكثر من ثماني سنوات يقف بالصدفة رئيس الوزراء العراقي الممثل الأكثر ثباتا لمعادلة التفاهم الايراني الاميركي داخل الصيغة العراقية هذه الوقفةَ الواثقةَ بالنفس إلى جانب الرئيس باراك أوباما امام البيت الأبيض قبل مدة؟ (ص368)
ينقل عبد الحليم خدام في تقرير عن لقاء مع الشيخ هاشمي رفسنجاني، وكان رئيساً لمجلس الشورى عام 1985، قول رفسنجاني له والحرب العراقية الايرانية في قلب معمعتها “مما لا شك فيه اذا انتصرت ايران سوف تصبح حدودُكم مع العراق وتركيا وإسرائيل مرتاحة، وبعد انتصار إيران ستكون كل قدراتها لكم وستتغيّر المعادلة لصالحكم، فروسيا سوف تغيِّر معاملتها لكم لأنه ستكون هناك مساحة من حدود أفغانستان حتى لبنان قطعة واحدة” (ص11).
لاحِظ كيف يستعمل رفسنجاني، أحد المعبّرين الرئيسيين عن “عقل” الاستراتيجية الإيرانية، صيغةَ “من حدود أفغانستان إلى لبنان مساحة… واحدة” والواضح أنه يقصد بذلك مساحة سياسية وأمنية “واحدة”.
¶ ينقل عبد الحليم خدام عن محضر رسمي للقاءٍ بين الملك (الراحل) فهد بن عبد العزيز وبين وزير الإعلام السوري (الراحل) أحمد اسكندر بتاريخ 7 شباط 1983 ما يلي حرفياً عن لسان الملك فهد فيما كان العاهل السعودي يشرح للوزير اسكندر كي ينقل للرئيس حافظ الأسد وجهة النظر السعودية كيف أن صدام حسين يضغط على دول الخليج للقطيعة مع ايران وليس فقط مساعدة العراق… يَنقل حرفياً عن الملك: “إن العراقيين يوفدون وزراءهم لدول الخليج ويطلبون منها عدم استقبال المبعوثين الإيرانيين، وهذا اضطرّنا لأن نقول لهم ليس لكم حقٌ بذلك، إن دول الخليج صغيرة ومعظم سكانها فُرس أو من أصلٍ فارسي، وبأي حق تطلبون منها ما تطلبون…” (ص78).
¶ يكتب عبد الحليم خدام حول مرحلة (عابرة) من سوء التفاهم الخطِر بين القيادة السورية وبين “حزب الله”. وسأنقل هنا مقتطفات من تقرير طويل:
“بتاريخ الثالث من آذار 1987 استقبلتُ السفير الإيراني في دمشق والذي قال إنه طلب المقابلة لمناقشة… ما حصل في بيروت وفي منطقة (ثكنة) فتح الله بالذات…” .
وتابع خدام نقلاً عن السفير الإيراني: “بالنسبة للحادث…حول قتل (قوات الأمن السورية) مجموعة من الرجال والنساء… كان لهذا الحادث وقعٌ شديد على المسؤولين في إيران… الأحداث المتلاحقة التي حصلت في ما بعد هي ملاحقة الأشخاص الملتحين، وحتى يوم أمس كانوا يمسكونهم ويحلقون لحاهم، وبالنسبة للمحجبات يزيلون لهن الحجاب … ووصلت عمليات التفتيش حتى إلى تفتيش سيارة القائم بالأعمال (الإيراني) في بيروت…”.
“بعد أن أنهى السفير الإيراني حديثه تناولتُ الحديث قائلاً:
… لو استسلم الجنود السوريون لمسلّحي “حزب الله” ولم يردّوا على الإعتداءات عليهم يجب أن نتصوّر ماذا ستكون الحالة في بيروت، ولدينا كما هو الحال في كل جيوش العالم أن الجندي الذي يُلقي سلاحه سيُحاكم…كان عليهم (عناصر “حزب الله”) أن يُدركوا أنهم يعبئون الجنود السوريين ضدهم…
“أجابني السفير: …”حزب الله” أثبت أكثر من مرة أنه لا يريد الإنخراط في المسائل الداخلية…يريد مقاتلة إسرائيل…
“أجبته: عملياً انخرط وخطَفَ بعض المسيحيين في لبنان، وآخرهم جان عبيد…
“عقّب السفير قائلا: في اليوم نفسه – يوم أخبرَنا وزير الخارجية عن موضوع جان عبيد – توجّهتُ إلى بيروت، “حزب الله” لا علاقة له بهذا الموضوع…
“سألتهُ: هل عماد مغنية بـ”حزب الله” أم لا؟
“أجابني السفير: أنا لم ألتقِه ولا أعرفه، وحسب معلوماتي فهو ليس من التشكيلات، وليس من “حزب الله”.
“قلت له: أقبل كلامك…” (ص64، 68، 70، 71).
كان عبد الحليم خدام يستعيد تفاصيل الإشتباك الخطر الذي حصل بين القوات السورية العائدة مجددا إلى بيروت عام 1987 إثر تدهور الوضع الأمني في غرب العاصمة اللبنانية وقيام عناصر باختطاف جان عبيد السياسي اللبناني الصديق للنظام السوري يومها، ورد القيادة السورية الصارم على العملية التي انتهت بإطلاق سراحه. والظاهر من التقرير أن الأجهزة الأمنية السورية كانت تتهم (الراحل) عماد مغنية بها.
يمكن العودة الى العديد من الخطوط التي تضمّنها الكتاب. ولو كان “أبو جمال” يتفرّغ لكتابة مذكراته لا لممارسة ما تبقى له من “السياسة” لكنّا قطعاً سنستفيد جداً لأن مذكرات السياسي أياً تكن وجهة نظره مفيدةٌ دائماً، بينما ممارستُهُ السياسيةُ تُصبح باهتةً جدا عندما يصر على عدم التقاعد في زمنٍ بات يتجاوزه في كل الحالات، داخل سوريا وخارجها.
شكرا استاذ خدام على الكتاب وبانتظار المزيد من الوثائق عن منطقة يديرها حكّامها – وكان عبد الحليم خدام منهم – تحت هاجس خطرِ تفكُّكِها الذي وصل الى سوريا الآن.
النهار