مَن يذكر دعد حداد… التي حملت الزهور الى قبرها؟
في مبادرة شجاعة، نفضت «دار التكوين» في دمشق الغبار عن قصائد لم تنشر لتلك الشاعرة العزلاء (1937- 1991) إلا من نصوصها المتوحشة. تحت عنوان «أنا التي تبكي من شِدَّة الشعر»، تصدر المجموعة قريباً ضمن أعمالها الكاملة. نصوص مسكونة بارتباكات العزلة، واضطرابات الكائن الهشّ، والدمار الوشيك. أن نستعيدها اليوم، فهذا إيفاء لدينٍ مؤجلٍ وحسب
قصائد غير منشورة/ دعد حداد
ثَمَّةَ ضوءٌ
ـ 1 ـ
انزعُوا الأقنعةَ، أيُّها البشر
واحشُوا حفاة أيضاً…!
وعرايا…
ثمّة ضوء هي آخر الليل الطويل…
ثمّة نهارات…
* 27/7/1987
ـ 2 ـ
أُودِّعُكَ الليلة، يا ناي…
أُودِّعُ الشِّعْرَ الحزين
أُودِّعُ رقصَ الموت..
وأرحل…
أُودِّعُ الأضواء…
والفلسفات.
والحكايات…
والأصوات…
وأرحل…!؟
ـ 3 ـ
هذي الليلة تأتي مُتمهِّلة…
حاملةً آخر الذكريات
الليلةُ عرس الموت…
والليلةُ…
ستقولون: … كانت!
* مساء 26 تموز 1987
ـ 4 ـ
بُحَّتِ الآه…
تطاولتِ الآه…
وماتتِ الآه…
…
الليالي… هنا دمشق!
وألق… وليس بعد الانتظار
…
أجاورُ السكونَ البرّيّ،
والقمرَ الشاحب…
وأنامُ على الورقِ الأبيض…
ـ 5 ـ
الغيرةُ في عينَيْكِ..
رأيتُها.
وكنتُ متّكئاً على عكّازَيْكِ..
ومسوداً كعامودِ دُخانٍ..
يلفُّ الليلُ أمنياتِكِ، على كَتِفي.
فينوءُ بها قلبي..
وأرثي لحالنا..
لولا صياحُ الشحارير.. في الأصيل..
لقلتُ:
مرحباً.. للموتِ الحزينِ الشريف
* 13/10/1989
ـ 6 ـ
لا شيءَ أصغر من هذا الكوكب،
أفيقُوا؛ الليلة حتّى الثمالة.
مساء 26 تموز
ـ 7 ـ
أعدّت الكؤوسَ…
الرؤوسَ…
أرى فأساً فارغاً
ورأساً فارغاً…
…
مرحباً! أيُّها الكأسُ الفارغ…
وإلى متى…
أنتم متواجدون…؟!
ـ 8 ـ
أيَّتها الرؤوسُ الفارغة…
* 26/ 7/ 1987
ـ 9 ـ
ها هو حائطُ المبكى…
ها هي الجنازاتُ الشاعرية!
وها هي… أوراقي…
أينعتْ في يَدِ الدلال
وتجّار الفرصِ المواتية…
…
اصعدُوا نحو نبتون،
فالعيدُ هنا…
يملأ الجوانح.. أس …
* صيف 1987
ـ 10 ـ
في الحكايا…
أنّ ابنةَ الملك…
نامتْ مئةَ سنة،
ثمّ… أفاقتْ…!؟
حينما قبّلَها الأمير…
شوكةٌ أنامَتْها،
وقبلةٌ أفاقَتْها،
وهكذا… الزمن؟!
مفقود؟! في الحكايا.
ـ 11 ـ
إنّهم لا يكبرون…
في الحكايا…
لا يشيخون…
ولا يتجحّدون؟!
وللحكايا… مزايا… كثيرة؛
إنها أيضاً… لا تشيخ؛
* صيف 1987
ـ 12 ـ
أشعلتِ السيجارة…
شربتِ العصير…
جلستِ… بانتظار الأمير ..
لكنّ… الأميرَ لم يحضرْ…!؟
أين الأميرُ… يا أميرة؟
…
لقد اختفى… مع القمر،
في أواخر الشهر،
ـ 13 ـ
انتظري… وانتظري…
أنتِ… كتلة انتظار،
…
احزني… قليلاً أو…
كثيراً…!!
لكنّ الأمير لن يأتي…
لقد ابتلعَهُ الحوت
والبحرُ غيَّبَهُ
* صيف 1987
ـ 14 ـ
الحداد النفسي المُسبَق…
الموتُ سيّد الكون…
وأنتَ! ماذا تفعل؟
قلْ!
شيئاً في هذه السويعات…
في هذه الليلةِ البائسة،
ثمّة إعصارٌ نفسيّ قادم…
يملأ جوانحي…
هذه البحارُ الهائجة،
ـ 15 ـ
هذه المحيطاتُ العميقة…
هذه المسافاتُ والأفق،
القمرُ يتمايل، والأشجارُ تنام،
…
هذه الريحُ المفقودة…!؟
…
استريحي…
أيَّتها الأعاصير…
* 27 تموز 1987
ـ 16 ـ
يا للبراءة!
وأنتَ ترحل…!؟
حاملاً مِعوَل الحزن…
…
ها هي النجوم تستقبلكَ…
أيُّها الطائرُ البرّيّ…
أيُّها المتألّق…
أيُّها الشاعر…
هل…
ـ 17 ـ
تستطيع أن تتوقّف..
وتضع قناعاً…
ثمّ تعود؟
* مساء 27/7/1987
ـ 18 ـ
أيُّها المَلَل، مرحباً!
هل تستطيع أن ترحل؟
أم أرحل… أنا!؟
صباحاً… مساءً…
ليلاً؟!…
إلى متى… تتواجد أيُّها المَلَل؟
ولقد… كبرتَ أيضاً…
أصبحتَ كوناً…
وموقوتاً…
ـ 19 ـ
تأتي مُتمهِّلاً…
واثقاً من النتائج…
ألا، فارحلْ…
وإلا…
فرحيلي… قريب؟!
صيف 1987
ـ 20 ـ
اشربُوا… حتّى الثمالة…
ثمّ ارحلوا… نحو… النجوم…
أيُّها… الرّحّالة الدائمون؟
* صيف 1987
ـ 21 ـ
تموتُ الحكايا…
حين يأتي الفراشُ حول…
كأسي…
وتُناجيني العصافير…
مُهلّلة… للمرّة الأولى…
والأخيرة…
مرحباً، مرحباً، مرحباً،
هذه الأمسيّة…؟!
ـ 22 ـ
تأتي أيضاً…
ووداعاً… أيضاً!؟
* صيف 1987
ـ 23 ـ
هذا القنفذُ البرّي…
يتراكضُ في الطرقات…
يأكل الأشواكَ، والحرّ…
وينامُ تحتَ جذعِ الشجرة!
…
لا شيء أهدأ من حياة القنفذ البرّي.
ولا ألطفَ من حياة القنفذ البرّيّ،
* صيف 1987
ـ 24 ـ
ما هذه المسافات…
والفراغات…
وأنا وحدي… أركض بلا…
… نهاية…
لا شيء سوى الذهول، واللا معقول،
لا شيء يحدُّ من هذه المسافات،
لا يدٌ صديقة..
لا يدٌ محبّة..
ـ 25 ـ
لا توقفَ
آه… أيَّتها الحياة المتّسعة
أين جدرانكِ..؟!
وبوّاباتكِ؟!
أين حُرّاس الأرض الطّيبون؟!
أين الملائكة المتبسّمون؟!
وأنا أنمو تارة، وأصغر..
… تارة …
ـ 26 ـ
حتّى السياجات…
والأشواك…
اختفتْ!
وانطفأت الأنوارْ!
أهي صحراء…
وبلا… رمال…؟!
أهي أحلام…
وسنستيقظ..؟!
وأنا طفلةٌ ذاتُ شرائطَ مُلوّنة…
ـ 27 ـ
أحيكُ ثوبي…
وأصنعُ دميتي…
ولكنْ؛
لمَنْ أهدي كلَّ هذا الجمال؟
والعالم مقفرٌ.. ومتّسعٌ..
وأنا…
أركض… بلا نهاية…
1 آب 1987
ـ 28 ـ
هذا وجهُ الجلاد؟
خُذي سيفكِ…
واغمدِيْهِ… في القلب…
تتفتّح زهرةٌ حمراء…
أهديها لحبيبي…
مرحباً… بالبداية…
صيف 1987
ـ 29 ـ
الموسيقا تُرفرفُ في القلب،
تتوزّع في ذرّاتِ الدمْ…
لا… تتوقّفي، أيَّتها الموسيقى ..
ارحلي إليه… قولي له أن يأتي…
… ما هذه الابتسامات الأليفة…
والأيدي الحانية؟!
هل أتيتَ، إذاً..!؟
محمولاً على بساط القشّ!
كلمات
العدد ٣٣٣٣ السبت ٢٥ تشرين الثاني ٢٠١٧
(ملحق كلمات) العدد ٣٣٣٣ السبت ٢٥ تشرين الثاني ٢٠١٧
حياة «رثّة» في الوقت المستقطع/ خليل صويلح
ماتت دعد حدّاد (1937- 1991) وحيدة ومنبوذة ومشرّدة. الآن علينا أن نحتفي بهزيمتها المبكرة (أم بهزيمتنا؟)، بنكراننا المعلن لتلك الشاعرة العزلاء إلا من نصوصها المتوحشة. اقُتلعت من بيتها في شارع العابد بمكيدة عائلية، فاضطرت أن تقطن غرفة رطبة في مستودع للكتب، تتوسد معطفها وتنام، مثل طائرٍ جريح فقد عشّه.
على الأرجح كانت تقضم وحدتها مع الفئران. امرأة بدينة بقبعة من القش، تتسكّع في شوارع دمشق، بلا أصدقاء، تكتب عزلتها بدون زخرفة أو بلاغة، بوصفها احتجاجاً على ما انتهت إليه من حطام. هكذا تلقفنا مجموعتها الأولى «تصحيح خطأ الموت» (1981) بدهشة. شاعرة لا تشبه أحداً إلا ذاتها. لم تكن جزءاً من تيار شعري، بقدر ما هي رغيف شعري طازج، خرج توّاً، من تنور التجربة. زهرة برية تلفت انتباه الرعاة وحدهم إلى لغز رائحتها. وهكذا حضر الموت باكراً إلى معجمها، بجرعات متدرجة، من دون هيبة أو خشية، حتى إنه صار أليفاً، إذ لطالما كانت حياتها على حافة الهلاك. وتالياً، فإن مراودة الموت بمثل هذه البسالة، كانت ضرباً من النجاة، في الوقت المستقطع، لحياة رثّة، أثثتها بالكتابة كتعبير جارح عن الوحدة والحزن وشغف الحب، بسريالية تشبه يومياتها. نصوص بحوافٍ خشنة، تتناسل من أحشائها، أقسى أنواع الوحدة «لماذا تعصف الريح بي، وحدي؟» تتساءل. لكنها، بعد قليل، ستستثمر العاصفة برغبة الطيران «أودُّ أن أطير، أن تكون مهنتي الخطر». سننتبه بأنها قد كتبت معظم نصوصها في ليلٍ متأخر، تشكو الوقت البطيء، وانتظار بزوغ النهار. ها هي تربح جولة إضافية مع الحياة، ولكن أي حياة؟ في ضربتها الحاسمة الثانية «كسرة خبز تكفيني» (1987)، تتضاءل قدرتها على العيش، وإذا بها ترتطم بمفردات الموت بيقينٍ تام «لا أحد يستطيع أن يسكن قبري/ أنا من تحمل الزهور إلى قبرها وتبكي من شدة الشعر/ أغمضوا أعينكم/ سأمر وحيدة كرمح»، و«فوق جبين العالم، قبرٌ أبيض، اقتلني واربح دولاراً»، و«استيقظوا الآن، أنا وحيدةٌ، ها هي أجراسي وتوابيتي».
ليس تابوتاً واحداً للمرأة الوحيدة، إنما توابيت، كأنها تدفن معها عشاقها، فالحب بالنسبة إليها «مسوّدة ممزّقة، وسلالم موسيقية». بروفات عشق وغناء لا تكتمل على الإطلاق، وضعتها في مهبّ العزلة، وحافة الجنون. كانت في سنواتها الأخيرة، تقتحم «اللاتيرنا» حانة مثقفي الثمانينات، من دون أن تجد من يجالسها، تشتم بعضهم علناً، ثم تخرج مكسورة، تهشّ بعصاها بقايا القطعان الضالة. لا أحد يعلم أن دعد حداد كانت تنام جائعة، في ليالٍ كثيرة، وكانت تتسلل فجراً إلى سوق الخضر، تتأبط سلّتها، تلمُّ بقايا الثمار المعطوبة. ورغم هذا الألم، وهذه الحشرجة، كانت تكتب يومياً تقريباً «الحائط باردٌ يا أمي! والثلجُ قادمٌ، وها هو صوتي يناديكِ، من خلفِ الأحجارِ والترابِ، فلا صدى لصوتي»، و«رغيفي المسروق والمبلّل… كيف أنتزعه من مخزن الحرية؟».
على أن هذا الضيم والفقدان، لم يمنعاها من أن تدعو إلى سحر الحب «الحب طائر غريب، يودّ أن يعيش بسلام». في الحركة الثالثة من نوتتها الرعوية «الشجرة التي تميل نحو الأرض» (1991) التي صدرت بعد رحيلها، تستكمل الجناز بأسى أكبر، كأنها تعلم قرب نهايتها، ها هي تميل نحو الأرض مثل شجرة عصفت بها قسوة ريح العيش «ثلاثةُ أطفالٍ، يحفرونَ قبري في الثلج: الوحدةُ والحزنُ والحرية». هذا الثالوث رافق خطواتها المتعثرة في عتمة دمشق، فأرّخته في يومياتها بانفعالات متوترة. إذ لا وقت لديها لمراجعة ما تكتب، كأن كلّ ما كتبته كان عريضة اتهام، في المقام الأول، وانتظاراً مضجراً للإغفاءة الأخيرة «منذ عشرين عاماً، وأنا أراقب الشجرة التي تطلّ نافذتي عليها/ معظم الأشجار كانت تتَّجه نحو السماء، إلا هذه الشجرة ما زالت تميل نحو الأرض»، ثم تلحقها بضربة إيقاعية حاسمة «لا شيء أقوى من رائحة الموت في الربيع» (رحلت في 27 نيسان/ إبريل). لكن مهلاً، ليس هذا كل ما لدى دعد حداد. قبل رحيلها، أودعت قصائد لم تنشرها قبلاً، بعهدة صديق تثق به، حملت عنوان «ثمة ضوء»، ستنشر للمرة الأولى، ضمن أعمالها الشعرية الكاملة التي تصدر قريباً بمبادرة شجاعة من «دار التكوين» في دمشق، بعنوان «أنا التي تبكي من شِدَّة الشعِّر»، وبمقدمة كتبها بندر عبد الحميد، وشهادتين من نزيه أبو عفش، وسوزان علي. في هذه النصوص، سنقع من علوٍ شاهق، على ارتباكات العزلة، واضطرابات الكائن الهشّ، والدمار الوشيك. أن نستعيد دعد حداد اليوم، فهذا إيفاء لدينٍ مؤجلٍ وحسب.
امرأة لا تُشبه إلا نفسها/ نزيه أبو عفش
امرأة لا تُشبه إلا نفسها، تنفرد، بين جميع مَنْ عرفتُ من شعراء، بكتابة بريئة من آثار بصمات الآخرين، وأشعار حُرّة باسلة، تتفتّح باستقلالية مطلقة على بياض الورقة، كتويجة ممهورة بالدم، أو شفرة نصل جارحة، تخترق جدار القلب بمهارة، تليق بملاك، أو كنحلة طائشة، تنزلج في الفراغ الكوني غير عابئة بالرحيق المسموم الذي تتجرّعه في محطّاتها الوردية التي غالباً ما يتربّص بين وريقاتها «البريئة» لغم مخادع، أو مخلب متحفّز، أو قرن استشعار جهنّمي لحشرة، تتلذّذ بالإجهاز على آخر نبضة متبقّية في قلب شاعر يغنّي. هي الشاعرة دعد حدّاد.
لو أمكن أن تطرح عليها سؤالاً ما، يتّصل بالمشهد اليومي لحياتنا العابثة، التي يتمّ تخريبها يوماً فيوماً على سطح كوكبنا الخرافي، لأجابتْكَ بكل بساطة: «أنا يائسة من مصير هذا العالم»، ولأمكنكَ، بكل بساطة أيضاً، أن تُدرك المغزى الحقيقي لإجابتها المتبرّمة الاعتباطية، القاطعة، التي تعني غالباً: «أنا امرأة بلا مصير». وهكذا تستقيم الصيغة أكثر لمَنْ يعرف دعد حدّاد؛ لأنها حقّاً امرأة، لا مصير لها.
* شاعر سوري
تكتب فوق غيمة/ سوزان علي
صديقتي دعد، تحملين معك المرآة أينما ذهبت، تقولين للجبل انظر هذا حزنك، كي يموت عصفور بين الأسطر الأخيرة، على سطح المدينة تجلسين وتتساءلين: أين تعيش الحرية؟ ثم تكتبين قصيدة عن الحب.
أتخيل غرفتك وعينيك متسمرتين في شقوق الباب، صوتك يشتم العالم ويتسلق شجرة، الظهيرة وذباب الموت، يأخذك الشعر معه، الخارج الآخر الذي تحلمين به، تضحكين بين الأزقة وتسألين المارة عن دمشق، لو كنتِ معنا الآن، دعد، أخبريني هل من شيء آخر ستضيفينه إلى قصائدك؟ لقد كتبت كل شيء، من يقرأ قصيدة لك اليوم، سيسأل عن عنوانك كي يزورك وفي يديه باقة من شقائق النعمان، إنك تسمعينني الآن…. هذه حقيقة، كما قصائدك الآن تحوم في بيتي.
تعرفين أكثر من الوقت عن الدوران، أكثر من الحجر، عن السقوط، أكثر من الحب عن الحضن، أكثر من المحطة عن الوداع، لكن لماذا رحلت هكذا مبكراً؟
* شاعرة سورية