مَن يعمل للطائفة يخُــن ذاتـــه …
الفضل شلق
يحتاج المثقف إلى نفسه، يحتاج لأن يتصالح مع ذاته. يستحيل التصالح مع الذات من دون تجاوز المجتمع. في التجاوز تتحول الذات نفسها من موضوع منفعل إلى ذات فاعلة. من دون التجاوز تبقى الذات داخل إطار المجتمع؛ أسيرة له؛ يستعبدها المجتمع من دون أن تستطيع قيادته، كما ينبغي لها أن تكون. خضوع الذات للمجتمع يقود إلى الروح المحافظة أو التقليدية. لا يستطيع أن يكون ثائراً متمرداً من يخضع لمجتمعه ولا يتجاوزه. التصالح مع الذات هو تجاوز للمجتمع وهو التحرر في آن معاً.
يحمل تعبير الثقافة معنيين. الأول يتعلق بالثقافة الموروثة، ومعرفتها باعتبار الثقافة معطى. وبناء الهوية على أساس هذا المعطى. يصير الأصل مهيمناً على الوعي، يخضع الوعي لما مضى، يُعتبر التقليد محموداً ومرغوباً. لا يكتفي هذا الاعتبار باحترام التقاليد بل يتقيد بها؛ يصير الفرد عبداً لها. في المعنى الثاني تصير الثقافة وعياً. يتعلق الوعي بالمستقبل. وتصير الهوية مشروعاً للمستقبل لا خضوعاً للماضي وتقليداً له. في الوعي المؤسس على المستقبل تستحيل السلفية، إذ أن تجاوز الماضي يتطلب تجاوز السلف الصالح أيضاً، تجاوز المذهب الواحد كما تجاوز الحزب الواحد. في واحدية الحزب والمذهب خضوع وتقليد ورجعية ومحافظة. في هذه الواحدية انسلاخ عن الذات، اندماج في مجتمع وهمي. يؤدي الانسلاخ الذاتي عند المثقفين إلى عدم تشكل نخبة وإلى استحالة تشكل المجتمع. مجتمع التجزئة السياسية هو مجتمع الحزب الواحد أو المذهب الواحد. لا يتوحد المجتمع إلا بتعدد الأحزاب والمذاهب. «اختلاف أمتي رحمة». بل اختلاف أمتي وحدة. ليس ذلك لأن التنوع فيه ديموقراطية، بل لأن التنوع فيه سياسة. السياسة تفترض الاختلاف، وتفترض التسوية؛ التسوية والاختلاف وجهان لعملة واحدة. الاختلاف يخلق الوعي، ويفرض التجاوز؛ والتسوية تفرض السياسة وتجعل المجتمع ممكناً. اضطر مجتمع المذهب الواحد، أو مجتمع الحزب الواحد، إلى النفاق وإلى تعدد المعايير من أجل فرض نفسه. يعرف أصحاب المذهب الواحد استحالة فرض مذهبهم؛ هم يفترضون واحدية مذهبهم؛ ويضطرون إلى فرضه عن طريق الاستبداد والقمع. ولأنهم يعرفون استحالة مذهبهم، فهم مضطرون إلى ممارسات طقوسية تتنافى مع هذا المذهب؛ هم مضطرون إلى النفاق كما هم مضطرون إلى الاستبداد، لأنهم يعرفون أن مجتمعهم ينبذ ويرفض المذهب الواحد. يتناقض الفكر مع الممارسة. وفي كل تناقض من هذا النوع نفاق وازدواجية معايير. لا نفاق في أي مجتمع أكثر مما في مجتمع المذهب الواحد، أو مجتمع الحزب الواحد.
يستحيل على مجتمع المذهب الواحد أن يفرض نفسه من دون القمع والاستبداد؛ يبعده الاستبداد عن شعبه. يشعر باستحالة وضعه، فيعتمد على الغير؛ يعتمد على الخارج، يتكل على الإمبريالية ويصبح تابعاً لها من أجل ضبط الأمن والحفاظ على السلطة.
يحتاج المثقف إلى أن يستوعب مجتمعه، وأن لا يدع مجتمعه يستوعبه. عندما يستوعب مجتمعه يقوده. عندما يستوعبه مجتمعه، يخضع له ولسلطاته السياسية؛ يصير عبداً، يفقد نبله. يصير النبل أمراً مستحيلاً. لا يمكن لمن يتسكع على أبواب السلطان والسلطات أن يكون نبيلاً. النبل هو الترفع؛ والتسكع ضعة.
المثقف الخاضع المتسكع وضيع الذات والثقافة. تتحول الثقافة لديه إلى أداة استرزاق. ليست المعرفة لديه غاية لذاتها، بل هي معرفة من أجل التكسب. يُخضع معرفته لغايات أخرى غير المصالحة مع الذات وغير استيعاب المجتمع، بالتالي لا يستطيع أن يقود المجتمع؛ يصير تابعاً للقيادات السياسية الموجودة ومقلداً لها في الوجاهة. عندما تقتصر السياسة على الوجاهة تصير بلادة، لأنها لا تعني أكثر من خوض الصراع على السلطة. عندما تكون السياسة إدارة للمجتمع تتيح إمكانية القيادة والتصالح مع الذات. لا يستقيم أمر قائد غير متصالح مع ذاته. هو لا يعرف ماذا يريد، هو قائد في مركز وجاهة، لا يعرف ماذا يريد سوى اكتساب المعنى والمغزى مدحاً ونفاقاً من الغير، من دون أن يكون في الأمر تقدير فعلي لإنجازات حقيقية. الوجهاء لا ينجزون شيئاً؛ لا يعتمدون على الإنجاز. ينتخبهم الناس من أجل الوجاهة، ومن لا يُنتخب يصير تابعاً لوجيه مُنتخَب. تصير النخبة الثقافية تابعة للغير، متسكعة على أبواب السلطة، مستفيدة من السلطة من دون أن تنفع المجتمع بشيء.
يستوعب المثقف مجتمعه بأن يعرف هذا المجتمع، يعرف جغرافيته وتاريخه وتناقضاته وإمكانيات التسوية فيه؛ يمارس السياسة من منظار عريض، ومن وجهة نظر إدارة المجتمع لا مجرد الصراع على السلطة. المثقف الذي يستوعب مجتمعه يصلح لأن يكون رجل الدولة. رجال الدولة في لبنان قلائل؛ لا يتيح لهم النظام الطائفي تولي أمور المجتمع. النظام الطائفي قائم على مصادرة المجتمع وتحويل الأفراد إلى رعايا وأتباع. مثقف المجتمع الطائفي هو التابع الذي يستوعبه المجتمع وتستعبده سياسة السلطة.
يستحيل على مجتمع الطوائف والطائفية أن يتشكل من مواطنين أحرار؛ هو مجتمع مكوِّن من مكوِّنات جماعية لا من أفراد أحرار. تتكلم الطوائف باسم المثقفين ولا يتكلم المثقفون باسم الطوائف. تستعبد الطوائف المثقفين وتصادرهم، كما تستعبد بقية المواطنين وتصادرهم. الأفراد في المجتمع الطائفي هم مجرد رعايا لا مواطنين. ليس في لبنان مواطنون إلا قلة من الأحرار الذين اختاروا مواقع فكرية وسياسية خارج طوائفهم. ليست العلمانية ضرورة من أجل الخلاص من الانقسام الاجتماعي، بل هي ضرورة من أجل أن يصير الأفراد مواطنين أحراراًَ. لا يتحرر الأفراد إلا بتحررهم من الطائفية. الطائفية في لبنان هي الشكل اللبناني للاستبداد العربي. لا بد من إسقاط النظام الطائفي من أجل التحرر والانسجام مع الثورة العربية التي تعم البلاد العربية من المحيط إلى الخليج. لم تكن ثورة الأرز سوى واحدة من الإفرازات الطائفية. بقي النظام الطائفي سقفها. ونكصت هي إلى الرجعية والمحافظة ومحاولة فرض المذهب الواحد. كانت علاقتها بالأنظمة العربية ذات المذهب الواحد هي الركيزة التي استندت إليها.
المثقف العضوي، كما كان يقول غرامشي، هو من يستوعب المجتمع، ويعرف أن التقيد بالطوائف يعني الاستتباع للطبقة الرأسمالية. يعمل المثقف العضوي على استيعاب المجتمع وقلب السلطة عن طريق الاعتماد على عامة الناس، وعلى الفقراء أولاً. لا يستطيع المجتمع الذي تقوده البورجوازية إلا أن يكون مجتمعاً مفتتاً خاضعاً للسلطة، ومستكيناً في وجه الاستبداد. صحيح أن الذين قادوا الثورات العربية جاء معظمهم من الطبقة الوسطى والمتعلمين. لكن هؤلاء قادوا مجتمعهم بالاعتماد على غالبية الشعب؛ هم قادوا بسبب علاقتهم العضوية بالأكثرية المتشكلة من الفقراء العمال والفلاحين والكسبة. لذلك يصعب على الثورات العربية أن تتفاهم مع أصحاب المذهب الواحد من التيارات الدينية أو الموالية للأجهزة الأمنية والعسكرية.
والمثقف العضوي قادر على تشكيل مجتمع لأمة غير قومية بالتجاوز والاستيعاب. يعيد تشكيل الأمة في كيان مرتبط بمشروع إنساني؛ يعيد تشكيل مجتمع مفتوح تكون فيه القومية استنتاجاً لا رجوعاً إلى الأصل. هذا هو جوهر الصراع بعد إسقاط رأس النظام. كي يسقط نظام الطغيان سقوطاً كاملاً، سوف تستمر الثورة، في سبيل تشكيل مجتمع مفتوح. المجتمع المفتوح على مشروع إنساني هو وحده المجتمع ذو الحيوية السياسية التي يمكن أن تخرجه من المستنقع، مستنقع الاستبداد والطغيان اللذين يمارسهما نظام المذهب الواحد أو الحزب الواحد. يؤدي المجتمع المفتوح إلى حيوية يفتقدها مجتمع الانضباط في واحدية المذهب أو الحزب. في التعددية السياسية، وحتى الدينية والمذهبية والحزبية، حيوية افتقدناها كعرب منذ عقود من السنين.
يحتاج كل منا أن يعود إلى نفسه، إلى التصالح مع نفسه، إلى التحرر من الطائفة. من كل طائفة. يحتاج كل منا أن يعود ليكون فرداً. ولا يكون فرداً إلا بالتصالح مع الذات؛ والتوحد في ذاته مع ذلك الجزء من نفسه الذي وهبه للطائفة. العودة للذات توقّف عن خيانة الذات.