مَن يُنقذُ السورِيّين!؟
جريدة عنب بلدي – العدد الثالث عشر – الأحد – 29/4/2012
قدّر الله لي أن أخوض بعضًا من التجارب المريرة التي يمرّ بها السوريون في ثورتهم، فقد جربت التواري عن الأنظار بعد أن سمعت أن اسمي في القائمة السوداء المطلوبة للاعتقال، وسُرِق بيتي كما تُسرق بيوت السوريين، وتم اعتقالي وسَوقي مُرغمًا إلى الخدمة العسكرية لأخدم في جيش الأسد كما يُساق أبناء السوريين، وأخيرًا هربت بطريقة غير شرعية عبر الحدود ولجأت إلى بلد مجاور كي لا أضطر لإطلاق النار على أبناء شعبي.
ولكن يجب أن أعترف أن حجم المآسي التي شاهدتها في تجربتي الهروب واللجوء تفوق أيّ وصف، وكان لسان حالي دائمًا يقول، من ينقذ السوريين من هذه العذابات؟ من يحمي السوريين من رصاص الأمن السوري وهم يجتازون الحدود هربًا من القتل أو الاعتداء أو الاغتصاب أو الاعتقال؟ من يطعم أطفال السوريين ويدفئهم في الملاجئ التي أقل ما يقال عنها أنهم أشبه باصطبلات، خاصّةً تلك الموجودة في لبنان والعراق والأردن.
ما زلت أذكر تلك الليالي الباردة التي قضيتها في الشرطة العسكرية في منطقة القابون. أكاد أجزم أن درجة الحرارة تقارب الخمس درجات تحت الصفر حيث احتجزونا في غرفة مساحتها حوالي 20 متر مربع وكان عددنا حوالي 125 سجين سوري معظمنا من إدلب وحمص ودرعا وريف دمشق. لم أجد متسعًا لأجلس فحاولت الوقوف على كلا رجلي فلم أستطع واضررت للوقوف على رجل واحدة متكئًا على الحائط طوال ساعات الليل والبرد ينخر عظامي حيث لم يعطونا بطانيات ولا مكان للنوم. في صباح اليوم التالي، قلت لمن حولي في تلك الغرفة، ليت أحدًا يأخذ صورةً لنا حيث كنا أشبه بكتل اللحم المرمية على الأرض في ذلك المهجع، ستكون صورةً للذكرى وشاهدًا على عذابات السوريين وآلامهم والظلم الذي أحدق بهم تحت حكم الأسد.
أنا لن أنسى عبارات سائق التكسي الذي أوصلني إلى المنطقة الحدودية موجهًا كلامه لي ولرب العائلة الحمصية المسافرة معنا: «يا شباب، إذا حصل إطلاق نار، سامحونا ويكون هذا قدرنا»، ثم قال عندما دخلنا في الطرق الترابية: «هذه المنطقة أخطر منطقة يرجى الحذر» ولكن لم أعرف كيف يكون الحذر من الرصاص!
لا يزال صمت بنت العائلة الحمصية، تلك الطفلة ذات الثلاث سنوات، والتي حملتها عبر التلال الحدودية الوعرة، لا يزال صمتها يرن في أذني، كما لو أنها تكتب بهذا الصمت تاريخ شعب آسى وعانى من الظلم والاضطهاد ما عانى في ظلم نظام الأسد.
عندما وصلنا إلى الحدود الأردنية، استقبلنا عسكريان من حرس الحدود وقالا لنا: «حمدًا لله على سلامتكم، أنتم في أمان». نزلت هذه الكلمات بردًا وسلامًا على قلوبنا الهاربة من جحيم الأسد. أخذونا وأجلسونا وقدموا لنا الشاي وشعرنا لأول مرة في حياتنا أننا بشر. لم يكسر صمت لحظات الانتظار في ذلك المركز الحدودي إلّا صوت أحد العساكر ينادي مستنفرًا جميع العساكر في المركز طالبًا منهم ركوب السيارات لإحضار مصاب من الحدود السورية. للوهلة الأولى ظننت المصاب غير سوري ولكن تبين أنه سوري ودخلت 3 سيارات لإحضار هذا المصاب السوري وإسعافه. كان المشهد صادماً وكانت المفارقة مضحكةً مبكيةً عندما تراءت إلى الأذهان صورة الأمن والجيش السوري يقتلنا ويشردنا ليسعفنا ويؤوينا الغرباء.
ولعلي لن أنسى تلك الاصطبلات التي يسمونها ملاجئ والتي جمعت السوريين في لجوئهم. كان المشهد مؤلمًا عندما رأيت الأطفال والنساء يخوضون تجربة اللجوء تلفح وجوهَهم نظرة الأسى، وجوهٌ مكفهرّة أتعبتها سنوات الظلم والعبودية وزاد في سوادها عام من الثورة رأت فيه من الحزن والألم ما لا يستطيع إنسان أن يتصوره.
في مخيم اللاجئين (الاصطبلات)، سمعت من قصصهم ما يندى له الجبين وتقشعر له الأبدان، من عائلات حرق الأمن منازلها، لعائلات فقدت أبناءها ولا تعرف إن كانوا مأسورين في زنازين الأسد أم قتلهم زبانيته، لإخوة هربوا بعد استشهاد أخيهم لأن الأمن يعتقل عوائل الشهداء، لنساء وأطفال شُرِّدوا بعد أن اعتقل الأسد رب العائلة، لشباب ضائع بين أحلام الثورة ومرارة التهجير واللجوء والأمل في حمل السلاح والعودة، ولكن ما يزال ذلك البريق في عيونهم، بريق الأمل بالعودة إلى الوطن، وأيّ وطن.
في كل تجربة من هذه التجارب مآسي وأحزان ولكن لولا الإيمان بالقدر وبحتمية النصر من عند الله إن أخلصنا، لما استمرت الثورة ولعدنا عبيدًا في مزرعة الأسد من جديد ولاستمر الظلم والظلام المخيم على هذا الوطن إلى أن يخرج من أصلاب السوريين أحرارٌ جدد يستعيدون كرامتهم وحريّتهم. تلك صورٌ نقلتها، لم ولن تُمحى من الذاكرة، لعلّي ذكرت غيضًا من فيض، ولكن ويبقى السؤال: مَـن يُـنـقـذُ الـسـورِيـيـن!؟
لقراءة المقالة على موقع جريدة عنب بلدي، اتبع الرابط.
http://enab-baladi.com/