صفحات الثقافة

مُطارِدُ النساءم/ ثيودور دو بونفيل

 

 

“أذكر أن شاعرنا قال في ثلاثة أو أربعة مواضع من أشعاره، عندما أراد أن يضفي على نساء جمالاً لا يُضاهى، وبلا نظير، بأن لهن ملامح أطفال”. هذه العبارة كتبها شاعر كبير هو شارل بودلير في حق صديقه بونفيل، الذي نترجم له هذا النص العذب الذي يفوق السرد العادي ليقترب من نثرية القصيدة. كان عنوانه الأصلي هو المطر الأول أي الوسمي، أو البدري. وقد قمت بتغييره للدلالة المباشرة على موضوعه.

ولد ثيودور دو بونفيل سنة 1823 بمنطقة الألييه وتوفي في باريس سنة 1891. وهو عَلَمٌ على رأسه نارُ كما يُقال. جمع ما بين الشعر والنثر والمسرح. اقترن اسمه في فرنسا بالحركة البرناسية، وكان مولعاً بجمال اللغة الشعرية وبالبناء المعماري للقصيدة. كما أنه كان صديقاً لبودلير وثيوفيل غوتييه، وقد ساهم مع شارل أسولينو ذلك الصديق الآخر لبودلير على إعداد الطبعة الثالثة لأزهار الشر، وكذا على نشر أعمال الشاعر الأخرى. ارتبط اسم بونفيل أيضاً، بأمر آخر، وهو عدم رده على رسالتي أرثير رامبو إليه، مخطئاً في ذلك في تقدير نبوغ الرائي.  والنص التالي يدل على مرح بونفيل وتغنيه، مثله مثل بودلير، بالمجد الملتبس للجمال:

عندما يَنْهَمِرُ أولُ الغَيْثِ، ويَدْلَهِمُّ الجَوُّ بِبَوَاكيرِ الضبابِ، الكثيفِ والشفافِ في آن، تصبحُ باريس، عِنْدَئِذٍ، شنيعةً وفاتنة.

فَيَتَكَوَّنُ على أديم الأرض، وَحَلٌ أسودُ، راكدٌ، جامدٌ مثلَ مَاءِ بِرْكَةٍ جَهَنَّمِيَّةٍ، تَسحُّ سَائِلَهَا البَشِع، حيث تَنْدَفِعُ الترامات الثقيلة، وعربات الأجرة المبقَّعة مثل الفهودِ، ويصيرُ المارةُ، في سُحنهم الحمراء، مبلَّلِينَ، مُلْتَفِّينَ مثل صُرَّةٍ في معاطِفِهِم الفَضْفَاضَةِ، يَتَخَبَّطُونَ في هيئات مضحكة. وكأن الأهالي ليسوا بذلك سوى مجردَ كاريكاتير هائل، يبدو وكأنه رُسم بريشة الفنان دومييه!  ومن ناحية أخرى، تتخذُ المدينة عينُها، وهي محاطةٌ بغلالةٍ رَطْبَةٍ مثلَ أمستردام أو البندقية، هَيْئَةَ لوحةٍ مَطْبُوعَةٍ لفنان عظيم، حيثُ ظلالٌ نَافِرَةٌ، رَشْقٌ لِنُورٍ بَاهِتٍ، تَظْلِيلٌ مُشَوَّشٌ ومَبْرُومٌ بِمِسْمَارٍ رُوحَانِيٍّ، فتُحدث أَثَراً، يبدو أنه جُعل كما ابْتَغَاهُ فنانٌ غَرِيبُ الأطوار. المآثر، مُشَوَّهَةٌ، مُغَيِّرَةٌ هَيْأَتَهَا، مُتَبَدِّلَةٌ تماماً بسبب الضباب الذي يَمْسَخُهَا، تَمْنَحُ هَيْئَاتٍ عَجِيبَةٍ لِقِبَاب، مَسَلاَّتٍ، أَبراجٍ، قصورٍ ساحرةٍ، مدنٍ قُوطِيَّةٍ أو هنديةٍ. تصيرُ باريس، رديفة نزوات السحاب، مشهداً خرافياً شاسعاً يَفْتِنُ النظرَ؛ بينما يكون ما تَفْرِشُهُ تحت أَقْدَامِنَا مَقِيتاً.

هذه الباريس، هي يأسُ المارة، المبللين، المنهكين، الممسوسين، يَثْنُونَ أطراف سراويلهم، أو يتخلون عن كل أمل، ويتَخَبَّطُونَ بحزم في الوحل، أو وهم مرتجفون، يظلون متريثين أمام واجهة محل، حيث لا ينظرون إلى أي شيء. في مقابل ذلك، فهي فرح المرأة، التي تخطو برشاقةٍ رائعةٍ، وتُحْسِنُ، مثلَ البجعةِ، تَلاَفِي أَدْنَى لَطْخَةٍ!

خلال هذه الأزمنة الداكنة والممطرة، تَخْرُجُ المرأةُ متوسطةُ الغِنَى، والتي لا يَعْدُو دَخْلُهَا مائتي ألف فرنك، راكبةً عربَتَها؛ أما العاملةُ الباسلةُ، التي يَلْزَمُهَا أن تَحْرِصَ على شَالِهَا الرَّخِيصِ، وعلى حذائها، تستقلُ الحافلةَ العُمُومِيَّةَ عَنْ حُسْنِ تَدْبِيرٍ؛ بينما البورجوازيةُ التي يُعتبر الرياءُ ديدنها، يُخيل إليها أنها ستُوصم بالعار متى لم تَسْتَقِل عَرَبَةَ الأُجْرَةِ: أما الباريسيَّةُ الفَذَّةُ، فهي تمشي على قَدَمَيْهَا!

المرأة الباريسية القُحَّةُ! مهما كان الوسطُ الاجتماعي الذي تنحدرُ منه، تعني المرأة الجميلة حقاً، الأنيقة، والمزدانة بِهِبَاتٍ خارقة؛ تلك التي يكون فستانُها، قَصَّةُ شَعرها، هيأتُها، قبعتُها البسيطةُ والجسورةُ، القفازانِ غير الضيقان، ذلك كله منسجماً مثل عمل فنان عظيم، لأنها كَيَّفَتْهُ بنفسها، مثلما يجبلُ الرسام أو النحات الإبداع المثالي لمُهْجَتَيْهِمَا. ترفعُ، وكلها رشاقة وضياء، تَحَدِّياً جريئا للدُّجْنَةِ والوحلِ. تمشي بخطوٍ ثابتٍ، ذي إيقاع، مهيب وفاتن، تغادرُ نقيةً الرصيفَ أو الإسفلتَ، اللذين يَلْمَسُهُمَا قدماها، مثلما تَرْكُضُ كاميليا ولا تكاد تلامسُ أطرافَ السنابل إلا قليلاً. يَسْبِي حذاؤُها الباهرُ عيونَنا، وتُورِي، ليس كثيراً، وليس بشكل فاضح، لكن كما يلزمُ ، كي تثبتَ سُلاَلَتَهَا الإلهيةَ، سَاقاً مَمشوقةً، مَزْهُوَّةً، بَهِيَّةً، محبوسة في جورب مسحوب في بهاء، يتلاعب فوقه الضوءُ المرتعشُ في كبرياء.

نعم. هذه الباريس الموحلة هي غبطة المرأة، المنطلقة واللطيفة مثل إيقاع نشيد؛ لكن أيضاً، وللسبب نفسه، فهي جَنَّةُ الحالم الذي يتعقَّبُ النساءَ.

أُوتِيَ لي أن أتعرفَ من بين أولئك المتعقبين للنساء في مواسم المطر، على شَخْصٍ، عاش في سبيل مَيْلِهِ البريء ذاك، ومات، حديثاً، من أجله. ذلك الأفّاق، الذي يُدعى سْتُورا، لم يكن له أيّ مورد رزق، لأنه لا يُحْسِنُ أيَّ شَيْءٍ آخَرَ سوى لعبة الفرارة أو نظم القصائد الغنائية. يقتاتُ على بعضِ كلمات الأشعار العاطفية، يبيعها هنا وهناك لناشرينَ منكوبين، يُخَرْبِشُ هذا الصعلوك في غرفة فوق السطوح، تنيرها –أو تظلمها- كوة ضيقة، ويزدرد فيها من حين لآخر كِسْرَةَ خبزٍ، وقليلاً من شيءٍ آخرَ، وهو منقطع للعزلة، وللحزن، ولليل الدامس، محروم من الترف، من كل حفل، ومن كل فرح، ولا يعرف لاَ الُحبَّ، ولا لِيرَاتِ الذَّهَبِ إلا من صيتها. يظل رَثَّ الثياب، صامتاً، منطوياً على نفسه، سواء كان الجو قارساً أو صحواً؛ لكن ما إن يشرعُ المطرُ في التساقط، حتى يخرج، ويأخذُ بزمام باريس، التي تصير حَلَبَتَهُ ومدينَتَهُ، ويصير له حريمٌ مختلفٌ ومتنوعٌ أفضلَ مما  ملكته إيمان الملك سليمان.

فهو يتعقبُ النساءَ! وعيناه مُرَكَّزَتَانِ على أحذيتهن وعلى سيقانهن المدهشة، يتتبعهن، نهاراً، مساءً وليلاً، سادراً مثل اليهودي الشارد، ناظراً إلى الشوارع، الساحات والأزقة وهي تضمحل تحت وقع خطاه، متوغلاً في الحواري المعتمة، مفارقاً جورباً من حرير أزرق إلى جورب رمادي، وحذاءً من جلدِ جديٍ أسودَ، إلى حذاءٍ من جِلْدٍ أَصْفَرَ مُذَهَّبٍ؛ لأنه يَمْنَحُ لنفسه مُتْعَةَ التَّقَلُّبِ في الأَهْوَاءِ، يُفَارِقُ، ويبدّل معبوداتِه، يَسْتَعِيدُ هذه أو تلك، مثل النحلة الشرهة تَطيرُ من زهرة إلى أخرى، مزدرية أن تتباطأ فوق وردة واحدة!

أحياناً يَسْبِقُ المرأةَ التي يَقْتَفِي أَثَرَهَا، ثم يَنْظُرُ، شَزْراً، إلى عَيْنَيْهَا، مُحَيَّاهَا وشَعَرَهَا، وذلك بما يكفي كي يُتْمِمَ استيهاماته، وكي يتأكدَ بأن الساقَ التي كان يَتَمَتَّعُ بها حتى تلك اللحظة، تُعَادِلُهَا الَجوَارِحُ الأخرى. لكنه، لا يعرفُ إِجْمَالاً، الوجوهَ كثيراً، ولا يَأْبَهُ بها إلا قليلاً؛ غير ذلك، فَقَدْ تَمَكَّنَ من أن يعرفَ، أن يُصَنِّفَ، أن يَمْتَلِكَ، وأن يدرك عن ظهر قلب سيقان الباريسيات الأفذاذ كلهن. فهو يتعرف عليهن، من شتاء إلى آخر، يلاقيهنّ، ويشرعُ في ملاحقتهن من جديد، مثل رجل يسترد أملاكه ! يُراكمُ بذلك النشوةَ والذكريات، من أجل أيام الجو الصحو الشنيعة، حيث يلزمه أن يظل محبوساً في غرفته، منهمكاً بنظمِ أشعار للبيانو.

جَعَلَتْ هذه المهنةُ ستورا يُصَابُ بجميع ما يمكن تَصَوُّرُه من التهاب القصبات والحنجرة، لأنه يَتَتَبَّعُ الأحذية الجميلة، في الوقت الذي لا يملك فيه أي حذاء، أو بالأصح، يحتذي نعلاً فاغراً فاه، ممزقاً، حيث يخلف منه في كل رصيف قطعة. اعْتَلَّ صدرُهُ، وأُصِيبَ بِبُكْمٍ، ويستطيع، بالكاد، أن ينبس ببعض الكلمات؛ لكن، لا هُمَّ؟ لا نحتاج إلى الكلام لكي نتعقب الجوارب، الجوارب الملونة والمخططة بخطوط لولبية، والجوارب الرمادية المطرزة بزهرة بنفسجية!

لا يمكن، مع ذلك، أن نعول على أي شيء، ولو حتى على الإِمْلاَقِ. غير أن صديقاً رَقَّ لحال ستورا، في خضم حُمى الأحداث،  وتَدَبَّرَ له ألف فرنك، ثم أرسله الأطباء إلى منطقة الميدي، فَطَفَقَ يَتَسَكَّعُ  بين مُدن  كان، مونتون، لابورديغيرا، موناكو وجين. فَشَاهَدَ أشجار البرتقال، الليمون، الخروب والصُبر، والبحر الأزرق؛ لكن حنيناً شديداً استبدَّ بِهِ هنالك للإياب، لأن السماء لا تمُطرُ في أصقاع الشمس تلك، وعندما تمطر بمحض صدفة، تأنفُ النساءُ من التشمير على سيقانهن، أو عندما يفعلن ذلك، يُظهرن سِيقَاناً غليظة، منتفخة في الكاحلين، ملتفة في جورب غريب. “أه ! يقول في نفسه بمرارة، لقد صدق فيورونتينو، ليس هناك في الكون كله مكان، ترتدي فيه النساء جواربَ مضبوطةً، من دون باريس!” يتنهد، ليس مثل مدام دو ستايل، قرب الجدول، لكن حيال السيل الجارف لزقاق دوباك، إذ يستحضره، في الأيام التي يُحَوِّلُهُ المطرُ إلى نهرٍ هائجٍ.

يقرأ ويعيد قراءة كتاب كينالوورث لوالتر سكوت، ويغبطُ حظَّ بطلِه الشاب غاليغ، الذي كان في لندن تلك الأزمنة الماضية، والموحلة جداً، يرمي معطفه المخملي تحت قَدَمَيّ ملهمته ! لكن لم يكن بمقدور ستورا أن يقوم بنفس الشيء للمُتَنَزِّهَاتِ الباريسيات؛ لأنه لما رجع إلى باريس، لم يعد يملك فلساً واحداً، مثلما كانت عليه حاله فيما مضى، لم تعد لديه سترة يرميها تحت قَدَمَيْ باريسيةٍ ! استردَّ ستورا غرفَتَه المظلمة، أغانيه العاطفية، وركضه تحت المطر. لم يبرأ؛ بالعكس من ذلك، فهو يسعل، يلهث، ويدمدم، لكن ذلك لم يزده إلا إصراراً على تعقب السيقان الجميلة، التي تتماوج في الأزقة مثل العصافير.

بعدما َمارَسَ ستورا مهنته تلك، من الصباح الباكر إلى المساء، انهار في إحدى تلك الأيام الماضية أسفل نُصب، تحت وقع مطر غزير، ونُقل ثمة إلى المستشفى، حيث فارق الحياة. ويا للغرابة ! يجب أن يثير هذا البوهيمي الحسد وليس الشفقة؛ لأن أي أمير، أي فنان عظيم، أي صاحب أموالٍ، عشرون مرة مليونيراً، أشبع نزواته بمثل الأبهة التي أشبع بها ستورا نزواته، في هذه المدينة التي احتواها خاطرُه كلَّها، وملكتْها رغبتُه؟

لما شُرِّعَ الطلاقُ، لم يعد بوسع أحد أن يحب امرأة آخر بعد، ولن يتكرَّرَ أبداً، ذلك المشهد الرائق، الذي يحكيه لماماً، وبمهارة، بلزاك، حيث ينتظرُ شابٌّ، في عش حب موصد بستارات قاتمة، مبطن بسجاد ثخين، في الظل حيث يتلألأ المينا المزجج، والمزهريات النفيسة، وأضواء الذهب الصهباء، عاشقتَه، التي تأتي متخفيةً، ورديةَ الخدين، رشيقةً، مرتعشةً، مُخْفِيَةً وجهَها في غلالة كثيفة. يا للغرابة ! هذه القصيدة الرعوية الباريسية كانت، حَصْراً، عَذْبَةً في أيام المطر، لأنه، وإن تكن المعشوقةُ قد أَقَلَّتْ عربةً، وهي مدثرة جيداً، لن تستطيعَ أن تدرأ الرطوبةَ تماماً، إذ ستَنِزُّ موجةُ رَذَاذٍ على فستانها، وعلى قفازيها، وعلى غلالتها، وحتى على جبهتها؛ وأي فرح سيكون إذن فرحها في أن تُجْلَسَ قرب الموقد، على كرسي واطئ من سُنْدُسٍ أرجوَّانِيٍّ، وأن تُجفف جبهتها تحت وَطْأَةِ القُبُلات.

المترجم: عبد الله كرمون

ضفة ثالثة

 

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى