صفحات الثقافة

مِيغِيل أَنْخِيلْ أَسْتُورْيَاسْ في ذِكرَى رَحِيله: حائز نُوبِل في الآدَاب… نَسِيّا مَنْسِيّا في بِلاَدِه!/ محمّد محمّد خطّابي

 

التهميش، والاغتراب، والاستلاب، والجحود، والإقصاء كلّ هذه المعاني التي عاني منها الكاتب والرّوائي الغواتيمالي الكبير ميغييل أنخيل أستورياس لسنوات طويلة في حياته (1899-1974)، (نوبل في الآداب عام 1967)، ما فتئت تطوله، وما إنفكّ يعاني منها إلى اليوم من طرف بلاده في مماته بعد رحيله عن عالمنا منذ أربعين حَوْلا، غواتيمالا موطن الكاتب، وبلاده التي قدّم لها الكثير من الأمجاد الأدبية ذات الصبغة العالمية، والتي جعل إسمها يتردّد في مختلف المحافل، والأكاديميات، والمعاهد، والجامعات العالمية ها هي ذي اليوم تتنكّر له وتنساه، أو تتناساه في ذكرى رحيله الأربعين التي مرّت منذ أيام قليلة في صمت رهيب في بلاده على الصعيد الرّسمي،. يحدث هذا في الوقت الذي تمّ الإعلان فيه أن مدينة غواتيمالا ستصبح عاصمة للثقافة الإيبيروأمريكية عام 2015 ..! .

المصوّر الفوتوغرافي الفرنسي الشهير» هنري كارتيير بريسّون» الذي أخذ صورا تاريخية نادرة وفريدة لشخصيات عالمية تاريخية شهيرة أمثال بابلو بيكاسو،وهنري ماتيس، وماري كوري، وإيديث بياف،وفيديل كاسترو، وتشي غيفارا، وسواهم كذلك خلّد كاتبنا الكبير ميغيل أنخيل أستورياس في صورة رائعة لأهمية ومكانة هذا الكاتب والروائي الكبير في العالم.

التفكير السّحري عند المايا وأوربّا

هذا الكاتب (الذي تصادف ذكرى رحيله الأربعون في التاسع من شهر حزيران/يونيو الجاري 2014) يعتبر من أعظم الكتّاب في أمريكا اللاتينية أواسط القرن المنصرم، كان شاعرا رقيقا، وروائيا فذّا، ودبلوماسيا حاذقا، وصحافيا ناجحا، كان من أبرز الوجوه الأدبية والإبداعية في الأدب الإسباني الأمريكي المعاصر. درس الحقوق في جامعة سان كارلوس في غواتيمالا، وأصبح محاميا حيث شارك بنشاط منقطع النظير ضدّ الحُكم المطلق للدكتاتور «إيسترادا دي كابريرا». وبعد أن أسّس الجامعة الشعبية في بلاده عام 1922، هاجر إلى أوربا حيث تسنّى له التعرّف على شخصيات أدبية مرموقة في مختلف البلدان الأوربية، والاختلاط والتأثّر بالحركات الأدبية، واالتقاليع الفنية، في القارة العجوز ،وعاش عن كثب التحوّلات الكبرى التي كانت تشهدها أوربا في ذلك الإبّان، وانخرط في دراسة علم الأنثروبولوجيا لحضارة «المايا» التي كان يمتدّ نفوذها من المكسيك إلى بلاده مرورا ببلدان أمريكا الوسطى الأخرى،عاد إلى غواتيمالا عام 1933 حيث أصبح أستاذا جامعيا،كما عمل بالصّحافة بنشاط منقطع النظير،ثم عمل في السلك الدبلوماسي، وفي عام 1966 نال جائزة لينين للآداب، ثم مباشرة عام 1967 حصل على جائزة نوبل في الآداب، ( توفي في مدريد في 9 يونيو 1974 ودفن في باريس).

لفهم أبعاد وأعماق أدبه وإبداعاته ينبغي أن نضع في اعتبارنا التأثير البليغ الذي خلفته فيه حضارة المايا من جهة، والحياة الأوربية من جهة أخرى. فثقافة المايا تقوم أساسا على نظرتها الكونية التي تقيم عالما قوامه التفكير السحري الذي يتفجّر خصبا ثريّا في مختلف أعماله الأدبية خاصة في قصصه ورواياته، يقابل هذا العالم السحري الأثيري لدى الكاتب عالم آخر يقوم أساسا على التأثيرالسّوريالي، عند بريطون، وب .إلوارد، و، أوليسيس لـ : ج. جويس، ولهذا يعتبر ميغييل أنخيل أستورياس الدينامو أو المحرّك الأساسي «للبّوم» أو الانفجار الأدبي الإبداعي الإسباني الأمريكي والذي انعكس بوضوح في رواياته الكبرى، مثل «السيّد الرّئيس» أو «رجال الذّرة».وهي المعناصر الإبداعية التي طبعت الفنّ الرّوائي في ينابيعه الأولى في القرن العشرين في القارة الأمريكية.

كاتب متعدّد الاهتمامات

يؤكّد الناقد الغواتيمالي «ألبيسوريس بالما» المتخصّص في أعمال أستورياس أنّ هذا الكاتب الكبير، كان رجلا متعدّد الاهتمامات، فقد خلّف لنا كذلك إبداعات شعرية غنائية رائعة في مختلف مجالات الحياة العاطفية، والسياسية، والاجتماعية، والفلكلورية، والسحرية، والجمالية. كان ذا خيال خصب، وكان كاتبا مسرحيا دراميا مفعما بتأثير الواقعية السحرية بأبعادها وأغوارها الإنسانية، مع عنايته الخاصّة باللغة وتوظيفها بمقدرة هائلة والسّيطرة على ناصيتها، وتفجير أسرارها، وتبيان جمالياتها. وقد أدرك أستورياس في ذلك مراتب عليا، ومنازل مرموقة. تحفل إبداعاته الأدبية بحقائق الحياة على تنوّعها وتعدّدها، إنطلاقا من تراجيديا الدكتاتوريات المتسلّطة والمتعنّتة، العالم السحري عند شعوب السكان الأصليين، عوالم السحر والعطر، والأحلام، والطفولة، والتقاليد المتوارثة في غواتيمالا، وهذا ما يفسّر التداخل والتمازج اللقائمين في أدبه بين مختلف الإتجاهات، والميولات، والحركات، والتيارات الأدبية داخل بلاده وخارجها.

من أعماله الأولى المبكّرة «أساطير غواتيمالا» (1930) وهي مجموعة قصص قصيرة صدرت في باريس بتقديم الأديب الفرنسي الكبير «بول فاليري»، ثم صدرت له روايته الكبرى «السيّد الرّئيس»((1946) وتلتها روايته الشهيرة كذلك «رجال الذّرة»( 1949) .

وقد اعترف ميغيل أنخيل أستورياس أنه عندما كان يكتب روايته «السيّد الرّئيس» لابّد أنه قد تسرّب إليها من خلال جلده جوّ الرّهبة، والهلع، والخوف، والقلق، وإنعدام الأمن، والذّعرالأرضي الذي يتخلّل الرواية» وهي تعالج ببراعة فائقة، وفنيّة عالية سردا، وتحليلا، وبإنتقاد لاذع، وسخرية مرّة المرحلة التي عاشتها بلاده إبّان حكم الدكتاتور «مانويل إيسترادا كابريرا» خلال العقدين الأوّلين من القرن العشرين، لا يظهر إسم « إيسترادا» في هذا التصّ الروائي، إلاّ أن هناك إشارات وإيماءات عديدة ترمز لهذا الدكتاتور.

و في روايته «رجال الذّرة» يتفجّر عنصر الواقعية السّحرية الذي يتوسّد معظم كتاباته وإبداعاته مثلما هو عليه الشأن مع أعمال خوان رولفو، وكارلوس فوينتيس، وغابرييل غارسيا مركيز، وخوليو كورتاثار،وسواهم، تقدّم هذه الرواية بمهارة فائقة مراحل التطوّر التي يعيشها الإنسان، وبالتالي الإنسانية، من مجتمع بدائي، أمّي،مغلق، غارق في الجهالة والتأخّر، إلى عالم معاصر،ليبرالي ،ورأسمالي متفتّح، من رواياته المعروفة الأخرى «الرّيح القويّة»، (1950)، و»البابا الأخضر» (1954) و»عيون المدفونين» (1960)، و»المولّدة» (1963)، و»جمعة الآلام» (1972) وسواها من الأعمال الإبداعية الأخرى.

ومن أعماله الناجحة في حقل القصّة القصيرة، «نهاية أسبوع في غواتيمالا»(1955). و»مرآة دي ليدا سال» (1967) و» ثلاثة من أربعة شموس» (1971) بالإضافة إلى أعمال إبداعية أخرى في مجالات المسرح، والشعر، والدراسات،التاريخية، والأنثروبولوجية، والاجتماعية، والسياسية وسواها.

لا كرامة لنبيّ في قومه

واعترفت بكل برود «كلاوديا فاسكيث» رئيسة قسم الإعلام بوزارة الثقافة في غواتيمالا أنهم في الوزارة لم يكونوا على علم البتّة بهذا الحدث الثقافي الهام الذي يخصّ مباشرة أحد أكبر الكتّاب والرّوائيين في البلاد الذي حصل منذ زمن بعيد (1967) على أكبر تكريم أدبي في العالم بحصوله على نوبل.

وصرّح الكاتب الغواتيمالي «خيراردو غينييّا (الحاصل على الجائزة الوطنية في الآداب عام 2009) بهذه المناسبة: «انّ نسيان عملاق في الأدب الأمريكي اللاتيني في قامة ميغيل أنخيل استورياس يعني ببساطة: «الدليل القاطع على الجهل الإجمالي لدولة غواتيمالا بشكل عام، ولا يخصّ ذلك حكومة بذاتها «.وأضاف الكاتب متحسّرا ومتأسّفا: «هذا أمر يبعث على الحزن الشديد، وهو مثير للحرج والخجل في آن واحد»، وقال في نفس السياق: «أنّ أعمالا أدبية مثل «رجال الذرة» و»السيّد الرّئيس» يضعان أستورياس في مرتبة الأب الفعلي للواقعية السحرية في الأدب الأمريكي اللاتيني المعاصر،إلى جانب الرّاحل غابرييل غارسيا ماركيز، ورولفو وآخرين، ويضيف الكاتب: «هذا العنصر الإبداعي الذي ظهر وترعرع في هذا الشقّ من العالم موجود في جميع صفحات أعمال أستورياس،مثلما هو ما زال موجودا في أيّ حيّ من الأحياء الشعبية في مختلف مدن أمريكا الجنوبية».

ترأس ميغيل أنخيل أستورياس في شبابه حركة للمثقفين الذين كانوا ققد أعلنوا العصيان على الدكتاتورية التي كانت سائدة ومتسلطة على غواتيمالا، ولقد فضح هؤلاء المثقفون وفي طليعتهم أستورياس الحقيقة المرّة، والوضع المزري والدموي الذي كانت تعيشه بلادهم في ذلك الإبّان، وكانت هذه المواقف التحرّرية والليبرالية لهذا الكاتب الكبير بمثابة حصوة في عيون المحافظين، واليمين المتطرّف في المجتمع الغواتيمالي الذي لم يغفر له هذه المواقف التقدّمية إلى اليوم.

ويشير أحد أحفاد ميغيل أنخيل أستورياس وهو «ساندينو أستورياس» أنّه نظرا لهذه المواقف التي تبنّاها جدّه فقد حورب وحوربت أعماله الأدبية التي كانت تترجم إلى مختلف اللغات وتجوب العالم، ويضيف ساندينو قائلا: «لدرجة أنه كان محظورا ذكر أو نشر اسم جدّه في الجرائد الغواتيمالية التي كانت تصدر في ذلك الوقت،ولم يتغيّر هذا الوضع بصفة نسبية سوى عندما حصل جدّه ميغيل أنخيل أستورياس على جائزة نوبل في الآداب عام 1967، علما أنه لم ينشر حرف واحد في بلاده حول جائزة لينين للآداب التي كانت قد منحت لجدّه كذلك عام 1965.

ويشير ساندينو في نفس السياق: «أنّ كلّ ما سبق ذكره يفسّر الصّمت المطبق في الوقت الرّاهن في بلاده حيال جدّه سواء من طرف الدولة أومن طرف المجتمع الغواتيمالي بخصوص ذكرى رحيله الأربعين التي تمّ الإحتفاء بها مؤخّرا في عدّة بلدان أوربية وفى أمريكا اللاتينية، ولم يحتف بها في غواتيمالا سوى من طرف أوساط أدبية وثقافية بعينها» وأضاف ساندينو: «لقد كان جدّي رجلا مضطهَدا، ومتابَعا، وملعونا من قبل السلطة، كما أنه كان قد عارض وندّد من جهة أخرى بتدخل الولايات المتحدة الأمريكية في أمريكا الوسطى». ويختم ساندينو تعليقه حول هذا الموضوع قائلا: «إنّ خير تكريم قد يقام في بلاده لجدّه هو إصدار طبعة جديدة من أعماله الكاملة، وبيعها بثمن زهيد (6 يورو)، في بلد يبلغ فيه ثمن علبة السجاير الواحدة حوالي 2 يورو «…!.

* كاتب من المغرب، عضو الأكاديمية الإسبانية الأمريكية للآداب والعلوم (كولومبيا).

القدس العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى