نائب المراقب العام يغرّد/ عمر قدور
في نهاية آب (أغسطس) المنصرم، نشر موقع الإخوان المسلمين على تويتر تغريدة منسوبة إلى نائب المراقب العام، يقول فيها إن ثورة السوريين الحالية امتداد لـ«ثورة» 1980. التغريدة أثارت سخرية على وسائل التواصل الاجتماعي، لا تزيد عن السخرية التي يثيرها أشخاص، أو أصحاب أحزاب لا يزيد عدد منتسبيها على أصابع اليد، يكررون فيها القول نفسه، ويذكّرون بقول قديم لميشال عفلق مفاده: «أنا الحزب».
لا يقول نائب المراقب إن الثورة امتداد لنضالات السوريين جميعاً في عهد الاستبداد، هكذا من دون تفريق، ويتغاضى عن الفوارق الشاسعة بين بداية تحرك جماعته عام 1980 ومجمل التحركات الشعبية عام 2011. وبالطبع لا يخلو سعيه إلى الدمج بين التحركين من تجاهلٍ لأمرين مترابطين، أولهما وصول أنظمة الاستبداد القديمة إلى حائط مسدود بالمفهوم التاريخي، واندلاع شرارة «الربيع العربي» التي ألهمت السوريين، بما ينفي عن تحرك جماعته قبل ثلاثين عاماً كونه مصدر إلهامهم.
لن تكون بشارة سارة أيضاً، أن تأتي هذه التغريدة مع تسمية إحدى معارك حماة باسم «مروان حديد»، بعد أن سبقها إطلاق اسم «إبراهيم اليوسف» على معركة فك حصار حلب. المُشترَك في هذا المضمار محاولة اصطناع سياق بين حالتين منفصلتين ومتباعدتين مفهومياً وظرفياً. وإذا كانت التسميات الإسلامية للكثير من الفصائل قد أثارت شكوكاً قوية إزاء نياتها، أو إزاء نيات داعميها، فتخصيص الأسلمة بمرجعيتها الإخوانية لا يعطي إشارة أفضل حالاً، لا للخارج فحسب وإنما للداخل السوري بمختلف أطيافه.
يناسب تغريدة نائب المراقب العام أن توصف بأنها محاولة وضع اليد، أو الاستيلاء، على مُلْك عام. كذلك ينطبق هذا الوصف على أقوال من هنا وهناك تتهم الإخوان بالاستيلاء على الثورة، لأن قسماً كبيراً من الأخيرة يتضمن، تصريحاً أو تلميحاً، القول بامتلاك الثورة، أو بالأحرى محاولة الاستيلاء عليها، ولو كذكرى قبل سرقتها المزعومة. أما القول بنجاح النظام في تخريب الثورة، بإطلاق سراح المعتقلين الإسلاميين، فأصبح لكثرة ترداده لا يقول شيئاً عن واقع تدويل المسألة السورية، أو يتحاشى القول.
في حزيران (يونيو) 1979، أعلنت الطليعة المقاتلة للإخوان عن عملياتها ضد النظام بمجزرة مدرسة المدفعية، وبصرف النظر عن تنصل الجماعة من تلك العمليات آنذاك، كان للمواجهة مع النظام عنوان وحيد واضح هو «الإخوان». بالتزامن، كانت هناك حالة استياء عامة، شعبية وفي أوساط النخب، لكن لم يكن هناك رابط وثيق بين استياء العامة واستياء النخب، وبالتأكيد لم يكن هناك رابط وثيق بين مجمل الاستياء العام والتحرك الإخواني الذي تركز في حماة وحلب.
بخلاف 1980 وعنوانه الواضح، تغري لامركزية اندلاع الثورة أياً كان بالقول: «أنا الثورة». يبدأ الأمر بناشط عاش أشهرها الأولى فقط وينتهي بأولئك المنفيين الذين «قسراً أو طوعاً» راقبوا بداياتها عن بعد، مروراً بقادة أحزاب أو تيارات لا يجدون من يسائلهم عن صدق أقوالهم. مصدر العلة ليس في تعدد تأويلات الثورة، أو وجود مفاهيم متباينة لدى مئات آلاف أو ملايين السوريين الذين نزلوا إلى ساحات التظاهر. هو أصلاً في غياب مبدأ التشارك لدى النخب السياسية والثقافية، وهو أيضاً السمة الغالبة للتنافس في هياكل المعارضة السياسية.
فوق ذلك، وأهم منه، ما يميز الجدل القديم المتجدد حول نسب الثورة، أنه لا يلتفت جيداً إلى حاضرها البائس، وكأن نسب المولود يعلو على حياته. الطرف الذي يتنصل من الحاضر ليس بأحسن حال من الذي ينكر مشاكل الحاضر، فهو يرى أن الثورة انتهت باستيلاء الإسلاميين والسلاح عليها، من دون أي حرج من التساؤل عن دوره المتخاذل في «تركها» لأولئك، أو بالأحرى عن هامشية حضوره وفاعليته اللذين يتنافيان تماماً مع زعم امتلاك الثورة ذات لحظة.
أما عن الإسلاميين، بمختلف تياراتهم، الذين يؤكدون على إسلامية الثورة، أو أقله على اقتصارها عليهم بحكم تصنيفات غالبية الفصائل المقاتلة، فهم لا يقيمون تمييزاً واضحاً بينهم وبين ثورة حملت أهدافاً مغايرة لتصوراتهم الأيديولوجية. وإذا نحّينا التمييز المطلوب، لا يقول الإسلاميون شيئاً عن الحال الذي وصلت إليه الثورة بقيادتهم المزعومة، الحال الذي لا يحتاج رؤيا ثاقبة جداً لاكتشاف بؤسه. تعليق كل شيء على مشجب «المؤامرة الدولية»، أو المظلومية السنية، لا يكفي لشرح حال الساحة الإسلامية المرتبطة على نحو عضوي بأجندات إقليمية متباينة، ما انعكس طوال السنوات الأربع الماضية بشرذمة الجبهات على الأرض، وبالتخلي عن بعضها الآخر جراء صفقات إقليمية ودولية.
على الصعيد السياسي، رفض الإخوان في مناسبات عدة اتهامات بسيطرتهم على المجلس الوطني، ومن ثم ائتلاف المعارضة، على رغم صدور بعضها عن كواليس الاثنين. هذا النفي يمكن اعتباره أيضاً بمثابة تنصل من المسؤولية، وسوف يزيد من غرابته القول أن الثورة اليوم استمرار لعام 1980، مع سيطرة إسلامية على غالبية الفصائل، لأننا سنكون إزاء تضحية كبرى يقدمها الإخوان. فهم وفق ذلك من قادوا الثورة، ويقودون منذ سنوات الجهد العسكري، ثم يملكون من الأريحية ما يدفعهم إلى التعفف عن القرار السياسي!
ما لم يحدث، بدل توسل «المجد» بنسب الثورة إلى الذات والدخول في جدالات من هذا القبيل، هو استنكاف الجميع عن تحمل مسؤولية الراهن. الجدل حول لحظة الانطلاقة، وما يلحق به، يخفي وراءه تنصلاً مريعاً من مجمل الأخطاء، في الوقت الذي لا يخفي جشعاً إلى قطف الثمار إذا حان وقتها. لعل هذا المشترك الوحيد بين أطراف الجدال، ولعله ما يفسر خلفية احتدامه كلما لوحت قوى دولية باقتراب التفاهم على حل ما.
وعلى رغم أن استثمار الثورات ليس عيباً خاصاً بالسوريين، فإن المقتلة السورية يجب أن تكون نوعاً من رادع طالما بقيت مستمرة، وطالما استمر معها تصدع المستويين السياسي والعسكري، ما يتحمل مسؤوليته كثيرون، أولهم، «جراء منطقهم ذاته»، آباء الثورة المزعومون من كل صوب. المسألة أنه، بينما يمتلئ فضاء البلاد بمختلف جنسيات الطائرات، وبينما يسعى النظام إلى استعادة «سورية الأسد»، ثمة من لا يسر خاطره أن يكون ما دفع السوريون ثمنه مُلكاً لهم، ولو أضحى مُلكاً في عهدة التاريخ.
الحياة