ناصر الرباط يكشف خفايا الثقافة العربية
موريس أبوناضر
مازالت الثقافة العربية حتى اليوم على وجه الإجمال، لا تدرك أصلها وفصلها تمام الإدراك. فمؤرّخو التيار القومي يردّونها الى لغة أمّ، وأصل عرقي، بينما المؤرخون الإسلاميون ينسبونها الى الإسلام بحكم دين الغالبية، والتاريخ المشترك لشعوب المنطقة. أما أصحاب الاتجاه الإقليمي فيتحدّثون عن ثقافة لبنانية ومصرية ومغاربية وخليجية… وفي كتاب ناصر الرباط تبدو الثقافة العربية أوسع وأكبر من ذلك بكثير.
< يعتبر المهندس السوري ناصر الرباط (أستاذ العمارة الإسلامية في جامعة ماسسوستش الأميركية) في كتابه «النقد التزاماً: نظرات في التاريخ والعروبة والثورة» (دار الساقي) أن عديد المؤرخين من ذوي الاتجاه القومي والإسلامي يركّزون على البعدين العرقي والجغرافي متناسين البعد الكلاسيكي للثقافة العربية الذي يجمع في داخله المكوّن الهلنستي والروماني والبيزنطي، إضافة إلى الأصول الشرقية من كنعانية وآرامية وفينيقية وقبطية وعبرية وبربرية، والذي يعتبر مكوّناً مهمّاً من مكوّنات الهوية الثقافية والفنية والمعمارية للمنطقة العربية.
وبكلام أوضح، يذهب أصحاب الإيديولوجية القومية إلى أن الثقافة العربية المعاصرة محدّدة زمانياً ومكانياً، وتعود بجذورها إلى جزيرة العرب، وتساير في حركتها حركة القبائل المهاجرة شمالاً من الصحراء إلى الأرض المرويّة التي أسّست لنفسها ثقافات متنوّعة في مختلف أرجاء الهلال الخصيب، امتدّت منذ الألفية الثالثة قبل الميلاد وإلى ما بعد الإسلام. أما أصحاب التوجّه الإسلامي فيرون أن الثقافة العربية تبدأ مع الإسلام وتقفز عبر الزمن مختارة لحظات متألّقة ونافية عن نفسها لحظات أقلّ تألّقاً، لكي تتوقّف في نقطة تراوح بين نهاية الخلافة الراشدة وقمّة الخلافة العباسية. ويعتبر هؤلاء كل ما جاء بعدها انحطاطاً وابتعاداً عن الأصول، ثم يلقون باللوم على الاستعمار وما تلاه من رسوخ للانحطاط، ويحلمون بعودة عصر ذهبي. أما المؤيّدون للاتجاه الإقليمي الذي خبا وانتعش وفقاً لصعود وهبوط أسهم القطريين والانفصاليين في مختلف البلاد العربية، فإنه يتحدّث عن هوية أردنية وهوية إمارتية وهوية مصرية.
المستشرقون والتاريخ
تعود هذه التفسيرات إلى جذور الثقافة العربية إلى لعب المستشرقين بالتاريخ من جهة، وتواطؤ القوميين والإسلاميين والوطنيين معهم. فالتاريخ وفق هؤلاء على ما يذكر الرباط بدأ مع التأثير السامي الذي كان في أساسه يهودياً، وامتد مارّاً بالحضارة المسيحية فالهلينية، مستبعداً المقدونيين والرومان والبيزنطيين، وشاطباً في طريقه حضارات مابين الرافدين والحضارة الإسلامية، ومسقطاً الشرق الذي سيصبح عربياً ومسلماً، ليحطّ في الغرب الأوروبي. هذا التفسير يهمل الفترة التي تمتدّ من قبل الفتح الإسكندري للشرق إلى الامتداد الإسلامي بعد البعثة المحمدية أي حوالى الألف سنة، ويسقط معه الأصول الثقافية للثقافة العربية أي ما سميّ تاريخياً بالتراث الكلاسيكي، وكأن لا فكر ولا فلسفة ولا عمران ولا سياسة تستحقّ الذكر في تلك الفترة، وهذا ما يكذّبه التاريخ الإسلامي. لا بل إن هذا التاريخ مليء بالشواهد على اقتباسات من التراث الكلاسيكي تظهر كتابياً، كما تظهر عند المعماريين من أمثال أبولودور الدمشقي الذي عاش في القرن الثاني الميلادي، وكان معمار الإمبراطور تراجان، ولوسيان الإنطاكي الذي نشأ على الفرات ومات شهيداً عام 312، والجغرافي بطليموس الإسكندراني، والمنظّرين الفيلسوفين الأنطاكيين ليبانيوس الذي عاش حوالى عام 314، ويوحنا فم الذهب المسيحي وغيرهم كثر. وتظهر أيضاً بوضوح في الفن المعماري، فالعمارة الأناضولية والسورية والمصرية في العهود الأسلامية هي أسطع دليل على أن لغة التراث الكلاسيكي الفنية والمعمارية قد تغلغلت في قلب المجتمع الإسلامي، وأصبحت لغته المعمارية التي تميّزه عن غيره من المجتمعات. وبقيت هذه اللغة المعمارية إن صحّ التعبير فاعلة ومؤثّرة حتى بعد مجيء الإسلام، كما يبدو جلياً لكل دارس للعمارة الأموية أوّلاً ومن ثم العمارة السلجوقية والزنكية والأيوبية، في حلب المنطقة والمدينة، وفي مئذنة الجامع الأموي، أو قسطل الشعيبية، أو المدرسة الظاهرية في حلب، أو مئذنة الجامع الكبير في معرة النعمان.
وتعود التفسيرات لجذور الثقافة العربية أيضاً إلى أن بعض المؤرخين الإسلاميين يرى أن المنطقة العربية فقدت ارتباطها بالتراث الكلاسيكي بعد مجيء الإسلام واكتساحه لكل ما قبله. وهذا ما حتّمته الضرورة العقائدية التي أرادت بناء الحضارة الإسلامية الجديدة على أرضية جديدة. ويرى مؤرّخون إسلاميون أخر، أن الإسلام لم يكتسح كل ما كان قبله، وإنما أتى لكي يصحّح التراتبية الحضارية في المنطقة ويعيد إليها «وجهها الأصيل» نافضاً عنها التأثيرات الغربية والخارجية، حتى تلك التي استمرت فيها بلا انقطاع لمدة ألف سنة كالحضارة الكلاسيكية بمختلف مراحلها.
تؤكّد طروحات ناصر الرباط حول جذور الثقافة العربية على الاستمرار الحضاري في الشرق الذي ساهم في إنتاج الحضارة العربية الإسلامية بدلاً من التركيز على الانفصال الحضاري والانكفاء على الذات. ذلك أن الثقافات كما يضيف صاحب الكتاب، تتعارف وتتقاطع وتتبادل التأثير باستمرار. ولعلّ هذه هي حقيقة التاريخ الأولية والدائمة التي لا تطغى عليها أي حقيقة أخرى. والحقيقة الثانية أن أكثر الذين كتبوا التاريخ العربي ليسوا سوى مجموعات متفرقة متنابذة، تملك أجندات سياسية وعقائدية مختلفة ومتخالفة على مدى أكثر من قرنين، مجموعات نثرت كتاباتها في أبحاث جمعتها وسائل التعليم الإبتدائية لتقدّمها للنششء الجديد. أبحاث يشتمّ منها التأثير الاستشراقي، والتأثير الديني المتزمّت، والتأثير العرقي الشوفيني، والتأثير النقدي المحبط بعد سلسلة الهزائم والتراجعات التي شهدتها فكرة الهوية العربية.
خلاصة أصول
ويوضح المهندس السوري الذي يستعمل فن العمارة كبينة، أن الثقافة العربية ليست بنت العرق العربي والجغرافيا العربية ووليدة الإسلام بل هي خلاصة أصول شرقية سابقة، ومن بينها التراث الكلاسيكي الذي اعتصره الإسلام ودفعه باتجاه أبعاد دنيوية وأخرى إيمانية، تبرز في تفصيلات مميّزة كالأفاريز المنحوتة المستمرة التي تحيط بالنوافذ، وكالزخارف البارزة ذات التأثيرات النباتية الهلينستية المحوّرة. وفن العمارة كحقل معرفي ليس من السهل محوه، لأن مادته الأولية تتكوّن من الحجر، بينما الكتابة تصفرّ مع السنين وتندثر. ولأن الحجر لا يقلّ تعبيراً عن الكتابة في وصفه الأشياء وتجسيدها. لذلك إذا أهملت الكتابات التأثير الكلاسيكي الذي تسلّل إلى الثقافة العربية لغايات عرقية وأخرى دينية كان الحجر أكبر شاهد على هذا التأثير.
إن إهمال تراث المرحلة الكلاسيكية الذي يشكّل جانباً كبيراً من الجوانب التي تتكوّن منها الثقافة العربية، على ما يرى ناصر الرباط لها أسباب عدة، بعضها كما ذكرنا تاريخي إيديولوجي، وبعضها سياسي استغلالي. فأوروبا العصر الكولونيالي التي وعت ذاتها وأدركت قوتها بعد قرون الاكتشافات والتوسع التجاري والثورة الصناعية وفلسفة التنوير، أنتجت تاريخاً يتناسب مع عظمتها، وحوّرت تواريخ العالم، ومنها تاريخ المنطقة العربية بما يتماشى مع رؤيتها للتاريخ. ووقفت في وجه الثقافة العربية، وفسّرتها انطلاقاً من كرهها للإسلام، وتمجيدها للعرق السامي الذي يتصدّره الشعب اليهودي. لهذا يدعو المهندس السوري إلى الاقتداء بإدوارد سعيد في كتابة التاريخ، الذي فضح الغرب في كتابه عن الاستششراق بمقولته إن القوة تصنع التاريخ وتفصّله على مزاجها. من هنا دعوة المؤلف إلى المؤرخين العرب ليتجاوزوا الحديث عن الانفصال الحضاري، والتركيز على الاستمرار الحضاري من خلال كتابة تاريخية متحرّرة من التأثيرات الاستشراقية، والنزعات الدينية المختلفة، وواعية ومنفتحة تسمح بتخطي البعدين العرقي والجغرافي، أي أكثر عناصر القومية فجاجة، والبدء بإعطاء البعد الثقافي الحق، أي بعد تعدّد الثقافات الذي خبرته المنطقة العربية التي كانت منفتحة ومتفاعلة مع الثقافات الأخرى.
لاشك في أن ناصر الرباط في كتابه عن الثقافة العربية، يسعى إلى تحرير التاريخ العربي من عقدتَي الأسلمة والغربنة، وهو يفعل ذلك حباً بالتاريخ، وتصحيحاً لممارسات أوصلت الشعوب العربية إلى حافة الجهل والاستبداد والعرقية. كتاب يختلف عن غيره بالنهج والرؤية وبذلك يستحق القراءة والتقدير.
الحياة