ناقص مكتمل الكينونة
ماريا ياولمتسدوتير
ترجمها عن الانكليزية مازن معروف
تكتب ماريا ياولمسدوتير نصوصها ضمن مساحة جمالية وأسلوبية يمكن وصفها بالمفخخة.
فهي لا تتقاطع، في الشكل على الأقل، وطريقة سرد المضمون، مع ما قد يتوقعه القارئ شعرياً أو نثرياً. وفي هذه المساحة الضيقة التي يمتزج فيها مرجع العالم المحيط بها شعرياً وهيكل المكتوب نثرياً ومنهج تحرير النص الذي يصب في خانة القص، تتحرك هذه النصوص. إنها تتخبط في حيز ضيق، من دون أن ترهقه بصداها، ذلك ان الحفاظ على أدنى حد من توتر هذا الحيز، وتراصه هو ما يشكل كلمة الحياة لتلك النصوص. تحمل ياولمسدوتير (1976) شهادة بالأنثروبولوجيا وتكتب بالآيسلندية والإنكليزية، إضافة إلى الإسبانية التي تقوم أيضاً بتدريسها. نُشِرتْ نصوص وقصائد لها في بعض الأنطولوجيات، ولها كتاب يحتوي نصوص قصيرة وقصائد تحت الطبع.
-1-
حين أشاحت هي بوجهها، فتحت السيدة العجوز فمها وجذبت بلسانها ذبابة عابرة، تماماً كما قد يفعل ضفدع. حياة برمتها، غير متوقعة، تتحرك بصورة متواصلة من حولها. فقط حين تغيّر اتجاه وجهها كي لا تنظر.
-2-
عندما لاحظ الكون كم أنها باتت متأخرة، قام بتشغيل الأضواء الحمر إلى مستوى: ‘أبدي’، أرسل جيشاً من الرجال العجائز إلى زحمة السير وجعل كلاً منهم يتصرف كقرد بابون يقود بكامل إرادته. الكون بعد ذلك، جلس في كرسيه وأطلق قهقهة بينما كانت تزعق، تصرِّخ، وهي تخنق عجلة القيادة باستعمال قوة الارتجاجات العصبية الدقيقة في وجهها.
-3-
خلال حصص الموسيقى الأسبوعية، وكانت لا تزال بعد مراهقة، اعتادت أن تصمِّم يدوياً كتاباً صغيراً، مليئاً بالقصائد. في تلك القصائد كانت تترك بنات أفكارها، آمالها وجل رغباتها. وبعد انتهاء الدرس، كانت تترك الكتيِّب على الطاولة المجاورة وفي الأسبوع اللاحق تجد أن أثره تلاشى. إلى اليوم، لا تزال تتساءل أين حط الرحال بتلك المخطوطات.
-4-
لأنها شعرت بالبرد، سحبتْ إحدى كنزاتها القديمة من الخزانة ووضعتْها عليها. بعد ذلك، جلست أمام شاشة الحاسوب ومرت على قائمة الناس الذين عملوا معاً لينتجوا حياةً لها وقصة أيضاً. كل أولئك الشخصيات والأطياف، وبعضهم يجلس الآن في هذه اللحظة خلف حاسوبه في مكان ما. بعضهم بات بعيداً جداً، بعيداً للغاية، وآخرون هم في المنزل المجاور لبيتها. أولئك الناس، وجميعهم جعلوا حياتها أكثر ثراء فقط بقولهم ‘مرحبا’ وهم يعبرون الشارع، أو بجعل وجوههم بشوشةً أمامها أو فقط ببقائهم معها في مجال واحد. ابتسمتْ وهي تتساءل كيف يمكن لها استعادة كل ذلك المرح المنسل الآن من حياتها، قبل أن تدس يدها في جيب كنزتها وتعثر على حزمة مجعّدة قديمة من النقود.
-5-
بعد أن جلست بصورة تبعث على السخرية أمام شاشة الكومبيوتر لفترة أخرى طويلة، رمشت أخيراً مرة واحدة بعينيها الجافتين، مسحت لعابها عن ذقنها وغادرت الشاشة. فرقع كل مفصل فيها وهي تمد أطرافها وزحف ألم حاد في كتفها. لقد أفلحت مرة أخرى باهدار أمسية أخرى من أمسيات حياتها بفعل لا شيء على الإطلاق، وها هي الآن تبدأ نوبة من الندم حول كل ما كان ينبغي أن تفعله خارجاً.
-6-
لقد عقدت العزم أن انطباعاتها لن تكون سراً من الآن فصاعداً. لم تعد تبالي بأولئك الذين يقرأون ما يراودها، وأولئك الذين لا يقرأون. لم تعد تكترث من سيحوز على أفكارها ومن لا، ومن سيعلم بم ستقوم به، ومن لا. ففي غضون مائة عام تقريباً، سيكون كل شيء عنها قد نُسِيَ بكل الأحوال.
-7-
يمكن القول إنها كانت شبيهة بآلة الأكورديون. تكون أحياناً ممتلئة وهائلة ثم يحدث أن تصبح شكلاً سخيفاً منسحقاً وخاو. كان بامكانها أن تستحيل صخباً.. ضوضاءً. وكانت، ما إن تتوالف وكينونتها هذه، حتى تدفع الجميع إلى الغناء والرقص أو حتى البكاء. أسوأ ما في الأمر أنه لم يبدُ هناك، من حولها، شخص ما، شخص واحد مستعدٌّ لتعلم اللعب على كل مفاتيحها.
-8-
لها قطٌّ دائم الابتسام والسيّاح الذين عبروا من أمام بيتها غالباً ما توقفوا لالتقاط صورةٍ ومداعبة هذا القط البشوش. ما لم يعرفه هؤلاء أن ابتسامته تلك تعبير عن استمتاعه بحب عظيم ملأ مالكته التي لم تكن قادرة على إظهاره لأحد سواه.
-9-
جلستْ في مربّعِها السحري وفيه قابلتْ رجلاً عجوز. تمنّى كل منهما للآخر يوماً سعيداً ثم بدآ بتبادل الكلام. لأكثر من ساعة ناقشا أهمية أن يرى المرءُ في المألوف جمالاً ما، وأن يتوقف في تلك اللحظة للاستمتاع به، بدلاً من مطاردة أهدافه المعلنة. ذلك اللقاء كان مثالاً مورس للتو.
-10-
قيل لها أن ناقصَيْن ينتجان زائداً. مع ذلك، لم تشعر بهذه الحصيلة عندما تعثرت بناقصين في نفس الوقت. الناقص أحياناً لم يكن أكثر من ناقص مكتمل الكينونة.