صفحات الحوار

نبيل الملحم: أبطالي انتشلوني من الانتحار

لا مراهنة على اللحظة.. واليوم نقرأه غداً

ياسر ابو شقرة

«فتى دمشق المدلل فوق أرصفتها»، هكذا يصف الروائي السوري نبيل الملحم علاقته بدمشق التي يعيش فيها ويكتب منها، بعد أن يصفها بالعشيقة، وعلى هامش الحوار معه ينصحني «عيش مزح، واشتغل جد». وبعد كثير من المزاح والجد، كشف الرجل أنه يحب الحياة حتى الموت، بحسب تعبيره. هو صاحب الستين عاما وخمس روايات صدرت في السنوات الثلاث الأخيرة: «آخر أيام الرقص»، «سرير بقلاوة الحزين»، «بانيسون مريم»، «موت رحيم» و«حانوت قمر». كان قد عمل في العديد من الصحف والمجلات العربية، كما قدم للتلفزيون سيناريو «أرواح منسية» 2012، وقبله «ليل الأسرار» 2003، وعمل أيضا معدّاً ومقدماً لبعض البرامج التلفزيونية منها: «ظلال شخصية» 1996، «الملف» 1999-2000. تنقل بين صفوف التنظيمات الفلسطينية في ثمانينيات بيروت، وعاش حصارها، وهو يكتب اليوم من دمشق رواياته بغزارة تلفت نظر القرّاء، وتخرج ما في جعبته إلى الملأ.

خمس روايات في ثلاث سنوات هي الأصعب في تاريخ سوريا المعاصر، ما الذي كنت تحاول أن تعكسه، وإلى أي درجة ترى أنك أنجزت ما فكرت فيه؟

^ ليس لدي شيء من مشاعر الانجاز، ولا أظن بأنني قادر على التصفيق لنفسي، كل ما في الأمر أنني أعيش حربين: الأولى حرب مع الانتحار الجسدي، والثانية حرب مع الانتحار الفلسفي أو العقلي، جاء أبطال الرواية لينتشلوني من الانتحارين.

أما إلى أي درجة أشعر بأنني أنجزت ما فكرت فيه، فأنا لست على يقين من شيء، لكنني أعتقد أنني أشبه ذلك الصيني الذي قالوا له اركض، وكل الأرض التي ستقطعها وكل المسافات التي ستقطعها ستكون لك، فبقي يركض ويركض حتى مات… أنا سأبقى أركض حتى أموت ولن أتوقف عن الركض.

الوضع السوري يذهب للتعقيد اكثر فأكثر، بحيث تصبح الكتابة عنه أمرا بغاية الصعوبة، ألهذا خرجت «حانوت قمر» من ثنائية قائمة الآن؟

^ الروائي ليس مؤرخا، وليس من حقه ولا واجبه أن يجلس في مقعد المؤرخ… الروائي الذي يفعل ذلك وقح، لكن اللحظة بما تحمل للتاريخ هي لحظته، اللحظة بصفتها ولاّدة للتاريخ، ورواياتي لم تؤرّخ لّلحظة السورية ولم تدّعِ هذا الشرف، رواياتي فيها بشر من لحم ودم، ولدوا قبل اللحظة، وما داموا أبطالاً حقيقيين عليهم أن يعيشوا اليوم وغدا، وإذا لم يكونوا كذلك فأنا روائي (بسطة)، أو سوبر ماركت بأفضل حالاتي، أتمنى أن لا أكون كذلك. أما لماذا رواية «حانوت قمر» مختلفة، فـلأنها مختلفة ولأنها فرضت شرطها، وأظن أن ليس لدي رواية تشبه الأخرى، وإن كانت بمجموعها تتقاطع مع القيم الأساسية الشاغلة للإنسان.

هل هناك ضريبة مترتبة على البقاء في دمشق والكتابة منها؟ وما المغري في ذلك (أي الكتابة من دمشق)؟

^ أنا زرت الكرة الأرضية تقريبا، لا بصفة سائح، بصفة مستكشف ومستطلع ومتسكع وصحافي، لم أجد مكانا يشبهني كما هذه المدينة… هذه المدينة كما العشيقة التي تهرس روحك ومع ذلك تجد نفسك متعلّقا بذيل فستانها، لا أتخيل أن أعيش خارجها، ولا أتخيّل أن أغادرها مهاجرا، ولا أحتمل فكرة ألا يكون لي بلاطة فوق رصيفها، الكتابة من دمشق مغرية، بالنسبة إلي أنا الفتى المدلّل فوق أرصفتها… أصدقائي فيها امتدوا من سوق الحرامية إلى المثقفين الذين ينبحون ولا يعضّون… حتى مخبروها لا أجد لي طاقة على كراهيتهم، فكيف بنسائها مثلا؟ دمشق بالنسبة إلي هي سليمان عوّاد أجمل عاشق يمكن أن أتخيله، معن كعدان الذي يعزف كما طاقة الرياح، إكرام أنطاكي التي علّمتني معنى الحريّة… مقهى الروضة وصلاح الذي يحمل لي مع القهوة ضحكة تسخر مني… هذه دمشق… دمشق مطوّبة باسمي حتى لو لم أمتلك فيها بيتا أو نافذة.

أفرزت الثورة السورية مجموعة جديدة من أصحاب المنتج الثقافي أغلبهم من الشباب، كيف تنظر إلى هذا الإنتاج؟

^ سأكون قليل أدب ان اتخذت موقفا نقديا من منتوجهم، لأنني متابع سيئ، لكن ما أظنه أن لهؤلاء الشباب فسحة واسعة ليعيدوا للسؤال قيمته، وليصنعوا للإجابات قيمها أيضا… لن يظهر هذا اليوم، سيظهر غدا فمن يكون في لهيب النار سيعمل على إطفاء حرائقه، لكن، بعد الحرائق ستبدأ التأملات الجديدة بالتجربة لتعيد إنتاج نفسها إبداعيا… أنا لا أراهن على اللحظة… اللحظة خشنة وقاسية ومتذمرة ونزقة، ولكن ما بعدها ستكون مرحلة إعادة رسم ملامح السؤال، وكذلك الإجابة عنه… لا نقرأ اليوم اليوم… سنقرأه غداً.

«خمّارة جبرا»

في الحديث عن رواياتك… معظم رواياتك يتصدرها اسم إحدى الشخصيات عنواناً… كيف تبني هذه الشخصية وتموضعها في الرواية؟

^ هاملت ليس بطل شكسبير الوحيد في روايته الأكثر تأثيراً، ولير ليس أهم من مهرجه، ومع ذلك حمّل مسرحياته اسميهما. في كل رواية هناك الناتئ من الناتئ، أنا رجل يعشق النتوءات، هكذا أنا ذكوري حتى الهبل، أحبّ المنحوتات الذكورية التي تحمل ذلك النتوء، مع التأكيد ثانية بأنني مريض بالذكورة. من هنا فالبطل الأكثر نتوءاً هو الذي سأجعل أحداث الرواية تروح منه وتعود إليه، و«قمر» المرأة هنا هي البطل الناتئ، بمعنى هي القيمة التي ستدور أحداث الرواية وتعود إليها، وهكذا هي حال مريم وحال رحيم أيضا، وروايتي القادمة وهي «خمّارة جبرا» التي ستصدرها دار أطلس وتتورط فيها سمر حداد، تحمل اسم بطلها أيضا.

هناك تيمات واضحة في مجمل الروايات… التركيز على علاقة الشخصيات بهوياتها، كيف تعيش وتتصرف الشخصيات ضمن المكان… وفي خلفية المشهد دائما هناك ليل المدينة الذي يقوم على العاهرات. لمَ هذا الحضور الدائم للعاهرات؟

^ المحصّنات يحملن التاريخ، والعاهرات يجلسن فوقه، هذا ما رأيته منذ أول عاهرة صافحتها. وكما ترى فمعظم أعمالي تنتمي إلى هوامش المدن، وفي الهوامش ستجد عوالم العراء… العراء الجسدي الذي يكشف عن عراء القيم، العاهرة كائن لا التباسات فيه، ولذلك فهن الأكثر قدرة على إضاءة لحظة عالم مشوب بالظلال، لهذا ستجد العاهرة في كل مكان من رواياتي ولا أظن أن بوسعي هجرها.

ترصد روايتك الجديدة «حانوت قمر» العلاقة بين السوريــين واللبنانيــين في أزمة 1967، كـيف ترى العلاقة اليوم في ظل الأزمات المتعددة للشعبين، ومن خــلال وجــودك فــي بــيروت كمقــاوم فــي الثــمانينيات، أي تقريبا في نصف المسافة الزمنية التي تفصلنا عن 1967؟

^ اختلفت الصيغة ولم يختلف الجوهر… اختلفت القيم ونظم التفكير لكن لم تختلف المصائر، ذلك أن السياسات منزاحة وسائلة، أما الجغرافيا فقدرها الثبات، لذلك لن يكون بمقدور أحد الاعتقاد بأن البالون الذي يضغط هنا لن ينتفخ هناك. أظن أن البالون السوري سينتفخ في لبنان و«كثيرا».

أجرى الحوار: ياسر أبو شقرة

(دمشق)

السفير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى