صفحات العالم

نجاح الثورة… فشل المعارضة


يوسف بزي

في بلدة حاس السورية، حمل أهلها لافتة تقول “أيها العالم: لسنا معارضة، نحن شعب يريد الحرية والكرامة”. بدت تلك اللافتة، التي تتناقل صفحات الفيسبوك صورتها، بياناً بليغاً في الفارق بين الثورة السورية والملتحقين بها، ورسماً فاصلاً بين الانتفاضة الشعبية، التي اندلعت في آذار 2011 وما زالت مستمرة، والقوى والشخصيات السياسية المنتظمة تقليدياً كمعارضة للنظام، متفاوتة الأهداف والخلفيات العقائدية، ومتباينة البرامج والأساليب.

رسالة أهل تلك البلدة إلى العالم تتضمن درساً أولياً في السياسة، مفاده أن الحدث السوري لا يقوم على نزاع بين “معارضة” و”موالاة” تحاولان الاستحواذ على السلطة، كما يكون الحال في أي بلد طبيعي، إنما هو نزاع شامل بين سلطة عنيدة في تسلّطها وشعب عنيد في رفضها. وهذا النزاع هو من الشمول والعمق بحيث تستحيل معه “التسوية” أو أي شكل من أشكال “التفاوض”. ولذا فإن مصطلح المعارضة لا ينطبق على الحال السورية، إذ لا يمكننا القول “الشعب المعارض”، فعندما تنتفض أغلبية السكان يتحول الاعتراض إلى ثورة. هذا الخلط بين الثورة والمعارضة، تعمّداً أو جهلاً، من قبل الكثيرين من سياسيي العالم وصحافته، تبدده تلك اليافطة ببلاغة مدهشة وحاسمة.

وفي هذا الشعار الذي رفعه أهل بلدة حاس، يتمظهر التمايز ما بين الحركات والأحزاب السياسية السابقة للثورة من جهة، وعموم المواطنين المنخرطين في الصراع اليومي، الدموي أغلب الأحيان، ضد النظام من جهة ثانية. وعلى الرغم من بداهة هذا التمايز، إلا أن المفاجئ في فحوى اللافتة هو ان “مواطني الثورة” أنفسهم أعلنوا تباعدهم المطرد عن الهيئات والأجسام السياسية التي تنطق باسم الثورة أو تحاول تمثيلها. هذا الجمهور بالتحديد يؤكد هنا، سمة التباعد ويطلبها ويكتب أسبابها. فهو يقول بما معناه: ثمة “معارضة” وثمة “شعب”. فلا يختزل أحد أحداً، ولا يضمر هذا ذاك. ويتحدد على هذا الاختلاف المسار الذي يذهب فيه شعب الثورة إلى طلب الحرية، فيما المعارضة تذهب في مسار طلب السلطة. وهذان المساران قد يلتقيان عند طموح “إسقاط النظام” فقط. عدا ذلك، فإن أهل بلدة حاس يعلنون لسان حال أهل أغلب البلدات والقرى والمدن، أن تلك المعارضة قد تكون جزءاً من الثورة، أو مجرد حليفة ملتحقة بها، أو شريكة أساسية وضرورية، لكنها في الحال السورية ليست “ممثلة” حصرية للثورة، أو هي فشلت في ذلك حتى الآن.

نحن هنا، مع تلك اللافتة، أمام إعلان سياسي بامتياز، لا شك في أنه يصيب بالخجل أولئك الذين اجتمعوا مرات لا تحصى ما بين اسطنبول وباريس والقاهرة وتونس، من دون الوصول إلى “مسوّدة” تعادل في وضوحها وقوتها وبساطتها عبارة أهل حاس، أو توازي في عفويتها وذكائها وثقافتها شعاراً واحداً يرفعه أهل كفرنبل مثلاً. مع العلم أن الصفة المميزة لـ”المعارضة” السورية هي غلبة المثقفين والكتاب والمفكرين عليها. فكيف تعجز هكذا معارضة، خيالاً وقولاً وعملاً، ما يستطيعه فلاحون وعمال وعاطلون عن العمل وموظفون صغار وأميّون وطلبة مدارس…

على الأرجح… وكما في كل الثورات، ثمة عمل تفكيكي هائل تقوم به يوميات الثورة السورية، عمل إبداعي متواصل لهدم البنى والشبكات التي كانت تحكم المجتمع والسياسة والسلطة. وهذا ليس بمستطاع الأجسام القديمة (أحزاباً وتيارات..) مجاراته أو المشاركة فيه، بل هي تغدو عبر التحاقها بالثورة عبئاً أو حتى منتجة للتناقض وعائقاً أمام ديناميكية العمل الثوري، الذي لا بد وأن يطيح حتى تلك المعارضات التي تنتمي إلى زمن ما قبل الثورة (عمراً وعقلية).

ما فعله أهل حاس هو إعلانهم معارضتهم لـ”المعارضة”. وقد ينبئ ذلك أن الثورة السورية، وبعد عام ونصف على اندلاعها، ومن الداخل، بدأت تنتج جديدها السياسي، من خبرتها الخاصة وتجربتها الميدانية، ودروسها اليومية، حيث تُمتحن الأفكار والتكتيكات والمعاني. فالصراع مع النظام، في الشوارع وفي الجبال والسهول وعلى تخوم القرى وفي ساحات المدن، مع كل العمل المباشر في القتال وتشغيل المخابز وتوزيع المؤن وإعالة المحاصرين وإسعاف المصابين وشبكات التضامن الاجتماعي وتسيير أمور الناس ومصالحهم وتنظيم التظاهرات وإقامة لجان إعلامية ولوجستية وخدماتية على نطاق واسع… كل هذا يشترك فيه عدد هائل من الناشطين الذين وجدوا أنفسهم، في خضم الثورة، ساسة (أي دبّر القوم وتولى أمرهم). وهؤلاء هم الذين يحملون شعار “الشعب يريد الحرية والكرامة”.

بهذا المعنى، في سوريا، ليس مصير الثورة مناطاً بمصير “المعارضة”، بل ربما يكون فشل هذه الأخيرة، معبراً لولادة الجسم التمثيلي السياسي للثورة.

المستقبل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى