صفحات العالم

نجوم لا تلتمع الا في التلفزيون!


الياس خوري

ترافقت انطلاقة الثورة السورية مع انتشار واسع لظاهرة المعلقين/المثقفين السوريين في الخارج على الفضائيات العربية. شكلت الظاهرة في البداية تعبيرا عن الرغبة في كسر سور الصمت الذي احيط به المجتمع السوري. وبدت المسألة كظاهرة ايجابية. ومع تنامي الثورة، وبداية تشكيل اطر سياسية كالمجلس الوطني، وهيئة التنسيق والهيئة العامة والى آخره… تحوّل فيمن يفترض فيهم ان يكونوا قادة سياسيين الى معلقين في الفضائيات العربية. وبصرف النظر عن الاسباب التي دفعت الفضائيتين العربيتين الكبريين: الجزيرة (قطر) والعربية (السعودية) الى تبني الثورة السورية، هل السبب مهني ام سياسي يتعلق بمصالح الدولتين، ام مزيج منهما؟ فان ما يهمني الآن هو قراءة كيف تحولت ظاهرة المعلقين/ المثقفين السوريين في الخارج الى ظاهرة سلبية، والى شكل من اشكال اضاعة البوصلة السياسية. وهذا يعود في رأيي الى تضييع المسافة بين الموقف الذي يُفترض بالقائد السياسي التعبير عنه، والتحليل الذي يقوم به الصحافي في العادة، والرأي الذي يطرحه المثقف.

هذا الاختلاط العجيب في المهمات يعكس تركيبة المعارضة السورية في الخارج، وغيابها الطويل عن مسرح العمل السياسي من جهة، كما يعكس نهم الفضائيات الى تعبئة الهواء بالمثير من جهة ثانية، بحيث تحولت متابعة الجمهور للمواقف المتضاربة الى عبء على العقول والنفوس. فبدلا من ان تعكس المواقف المعلنة ارادة التغيير تحولت الى عبء على التغيير ومناسبة لفضح تركيبة هشة وكشف رغبات انتهازية تسعى الى تسلق شلال الدم السوري.

قليلا من التواضع ايها السيدات والسادة، وليعمل كل واحد بكثير من الصمت وقليــــل من الكلام من اجل دعم الصامدين في الداخل. هذه هي مهمة المثقفين في الخارج لا غير.

اما الذين يتصدون للقيادة فعليهم الاقتصاد في الكلام، فالقائد ليس صحافيا في الفضائيات، وحين يظهر على الشاشة فان ظهوره يجب ان يحمل توجيها سياسيا محددا، وموقفا واضحا نتيجة تطورات سياسية معينة. ما عدا ذلك فبهلوانية تؤكد الشخصية الفهلوية التي سبق لصادق العظم ان حللها منذ اكثر من اربعين عاما.

ان وضوح المهمات مهما كانت الخلافات، واللقاء على مشاريع ملموسة، كفيل باذابة جزء كبير من خلافات سياسية تتحكم بالكثير من القوى السياسية تعود في معظمها الى مرحلة ما قبل الثورة.

لا يمكن ان يقبض الجمهور هذا الاختلاط العجيب، كل يصرّح على ليلاه، ويعلن المواقف على الهواء مباشرة، من دون الرجوع الى اطار مرجعي، بحيث تختلط الادوار وتتفاقم الالتباسات، ولا يعود المواطن قادرا على التمييز بين مواقف القوى السياسية وبين انطباعات مجموعات من المنتمين اليها.

قد يكون الدور الذي لعبه عزمي بشارة في بدايات الثورات العربية، حين تحول من زعيم سياسي ومفكر الى معلق تلفزيوني يومي على قناة الجزيرة، قد طبع مرحلة الالتباسات هذه. وعلى الرغم من ان بشارة استدرك خطأه واحتجب نسبيا، فان الجوع الى الاعلام بهدل الكثير من السياسيين والمثقفين واساء الى الثورة بدلا من ان يكون في خدمتها.

نعود الى الاولويات، وظيفة الصحافي ان ينقل الخبر ويحلله، ووظيفة السياسي ان يعلن الموقف حين ينضج الموقف ويصير اعلانه ضروريا، ودور المثقف ان يدافع عن القيم ويفكك خطاب السلطة، ويلتحم بالثورة من دون ان يفقد حسه النقدي تجاه ضرورة نقد أخطاء الثورة من اجل تصويبها. اما دور المناضلين على الأرض بهيئاتهم التنسيقية فهو المرجع الأول والأخير لهؤلاء الثلاثة.

هكذا تستقيم الأمور، وهذا ما نفتقده اليوم مع ظاهرة نجوم ‘التوك شو’ وما يشبهها، الذين لا ينجّمون الا للحظات ثم ينطفئون.

يجب ان يتوقف سيل التصريحات التي بمعنى وبلا معنى، فالفضائيات ليست ‘الفيس بوك’ حيث يختلط الحابل بالنابل في الكثير من الأحيان.

لا ادري كيف يملك هؤلاء الجرأة على هذا الكم المخيف من الكلام، كيف لا يتواضعون امام ملحمة كبرى يصنعها شعب يقف وحده دفاعا عن الحياة والقيم الاخلاقية في مواجهة آلة الموت العمياء، كيف لا يشعرون بالصغر امام كبرياء الموت الذي يملأ مدن سورية ودساكرها، وكيف لا يحترمون الكلمة التي هي سلاحنا الأخير في مواجهة العهر الدموي للنظام الاستبدادي.

منذ انطلاق الثورات العربية وصولا الى الملحمة السورية التي هي اعظم وانبل ما يصنعه العرب اليوم، كانت مهمة المثقفين والنخب هي اعادة المعنى الى الكلمات. تخليص اللغة من الابتذال واستعادة القيم الاخلاقية التي من دونها لا وجود لأي نصاب اجتماعي، كانت وستبقى هي المهمة الكبرى.

بدل التلهي في نقاشات سياسية تافهة وعقيمة، من واجب المثقفين بناء عقد اخلاقي جديد يقوم عليه البنيان الاجتماعي الذي حطمه الفساد والاستبداد.

حجارة هذا البنيان يجب ان تكون جديدة ومتماسكة اخلاقيا كي تكون الثورة بداية زمن جديد، هو زمن المواطنين لا الرعايا، وزمن الافراد الاحرار لا القطعان التي تساق الى الذبح، وزمن العدالة بكل ابعادها الاجتماعية والسياسية.

لا يريد هذا الكلام ان يُغفل اعمال الكثير من المثقفين والمناضلين السوريات والسوريين، الذين حافظوا على شرف الكلمة وشرف الدم، ولم يسقطوا في فخ التنجّم البائس، لكنه مجرد تنبيه الى اننا انفلقنا من نجوم لا تلتمع الا في التلفزيون!

القدس العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى