نحن الحمقى … وهذه ثرثراتنا/ بيسان الشيخ
قد يكون من غير الشائع في صحافتنا العربية، أن يتساجل زميلان في ما كتب أحدهما على صفحات الجريدة نفسها حين يكون العتاب متاحاً وجهاً لوجه، او حين يكون ثمن السجال احتمال سد الباب نهائياً، على أي عتب ودي قادم. لكن الاختبار لذاته يستحق أن يخاض اولاً، والكتابة لما هي تناول للشأن العام وجعله أكثر عمومية، تغري بمحاولة من هذا النوع ثانياً.
والى ذلك، ثمة رغبة أخرى أكثر ذاتية وأنانية تدفع بهذا الاتجاه، وهي الوقوف عند عدد من القضايا الأوسع التي فجرها مقالا الزميل عبده وازن الأخيران عن الروائية سمر يزبك.
فالمقال الأول الذي اعتبر أن الحرب السورية أغدقت نجومية غير مستحقة على الكاتبة، وان لعنتها انقلبت عليها نعمة، لا ينال من يزبك شخصياً على رغم امعانه في تناول مظهرها وخياراتها، وانما يطال شريحة أوسع، تجسدها يزبك وبلغت بنجوميتها ذروتها. تلك الشريحة هي أولاً كل سوري كسر الصورة النمطية لدور الضحية، التي يحاول كثيرون حصره فيها وتأطيره داخلها سياسياً وفنياً وثقافياً. اما أن يحول مأساته الى قضية رأي عام ويضعها في نصاب اوسع، فيجعله تلقائياً في مرمى نيران عشوائية وأحياناً صديقة. وليس ما جرى مع الناشط الحقوقي مازن درويش أخيراً إلا نموذجاً آخر عن استسهال تصويب تلك النيران وتهشيم اي انجاز فردي خارج عن هيجان الجماعة.
وتلك الشريحة هي أيضاً كل ما يتعارض مع طواطم الثقافة التقليدية وصناعها في بلداننا بعامة، ووسائل اعلامنا بخاصة. انها شاب اشعث الشعر يكتب شعراً على هاتف نقال، وامرأة جميلة لا تخفي أنوثتها خلف نصوصها، ولكن لا تبتذلها بما يكفي لتشهرها سلاحاً في وجه زميلها. وهي شريحة من أقليات عرقية او دينية او جندرية أو سياسية، تتحدث بلغتها هي وليس بلغة الأكثرية اياً كانت تلك الأكثرية. ذلك كله، وغيره الكثير مما أتاحته الثورات الأخيرة من أدوات تعبير وانتشار وتظهير للذاتي على حساب العام، جديد كل الجدة على جيل من المثقفين والمثقفات على السواء، ممن اعتادوا ضبط خطواتهم على ايقاعات منتظمة.
والواقع انه لا يمكن فصل نقاش كهذا عن وضع عام متفاقم في الاعلام اللبناني تحديداً، وانتهاء دوره الأساسي بإغلاق الملاحق الثقافية وتقليص الصفحات المتبقية منها الى ما دون الحد الأدنى، وهي التي كان لها باع طويلة محلياً وعربياً في صناعة الأسماء والنجوم او اطفائها. أما القليل المتبقي منها فليس ما يمنع تحوله الى صومعة احتكارية لا تفسح المجال لأقلام جديدة، إلا بما يمكن ان يستعاد لاحقاً في سياق مديح القسم المعني لنفسه.
وهو ما أشار اليه بوضوح المقال الثاني للزميل وازن، إذ اعتبر ان نشر مقالات ليزبك منذ عدة سنوات، هو مما يحتسب للقسم الثقافي وليس لنص فرض نفسه للنشر بمعزل عن شخصية كاتبه أو نجوميته. فمجرد النشر، وفق المقال، دليل على سعة صدر وترحيب «سلطة ثقافية» بقلم شاب وواعد. فإن اثبت ولاءه وجدارته وفق جدول التقييم ذاك، كرسته تلك السلطة اسماً. أما أن يشاغب عليها ويأتي باعتراف من خارجها فهو مما يعاقب عليه، ثم يبرر ذلك بالحرص والرعاية والرغبة في انصاف اعمال أخرى، امعاناً في ممارسة «التفوق الأبوي» نفسه.
وتفادياً لنقل النقاش الى سوية ثرثرات الحمقى، على ما اتهمنا الزميل نحن «معشر الفسابكة» (والمصطلح للكاتب أحمد بيضون)، فإن الأزمة الفعلية التي كشفها هجومه على يزبك وحملات الدفاع عنها في المقابل، هي أزمة الثقافة والمثقفين عموماً بعيداً من الحسد والغيرة واتهامات أخرى كيلت إلى الكاتب ولا مجال لقياس صحتها عملياً.
فكما في السياسة، تتلخص الأزمة هنا في شعور جيل من النخبة الثقافية انهم ما عادوا لجنة الحكم الوحيدة التي تمنح الأوسمة وتحجبها حين تشاء. انه تعدد السلطات وتنوع مصادرها وتشعب ابوابها، الذي بدأ يسحب البساط من حرس قديم لم يرَ ضرورة في مواكبة العصر وأهوائه وأدواته ولغته.
وعليه، يصبح فتح نقاش عام على وسيلة تواصل اجتماعي هي الأقوى في هذا الزمن، والأكثر انتشاراً وفاعلية، مدعاة سخرية واستهزاء. ويفوت الداعين الى الترفع عن الخوض في وحول «فايسبوك» وغيره من الأدوات الحديثة، إن ذلك يشبه طلب جيل اسبق الامتناع عن سماع الراديو او مشاهدة التلفزيون في عز ثورة كل منهما، وهو عملياً من المستحيلات.
ولكن، في المقابل، فإن الدفاع عن يزبك الذي حصر نفسه في نسوية مفرطة واعتبر انها هوجمت لمجرد انها إمراة، يقلل بدوره وعن غير قصد لا شك، من نتاجها الإبداعي على حساب جندرها. فأن ينصب الدفاع على تبرير ما لا يبرر، ولا يفترض ان يبرر أصلاً، يجعلها في موقع غير مساوٍ لرجل يتعرض لما تتعرض له. وصحيح انه في الهجوم الشخصي يسهل تناول شعر الكاتبة او ملامحها أو لباسها اكثر مما يسهل تناول مظهر الكاتب، لكن ذلك اوقع الدفاع في فخ الرغبة بشيء من «التمييز الايجابي» حيال النساء، وهو ما من شأنه ان يعيدنا الى الخانة الأولى من دور الضحية، وعصر كتبت فيه جورج صاند تحت اسم ذكوري.
الحياة