نحن بوصفنا مِللاً ونِحلاً: حازم صاغية
حين سقطت الدولة العثمانيّة مع هزيمتها في نهاية الحرب العالميّة الأولى، تركتنا مجموعةً من الملل والنِحل المتساكنة إنّما غير المتعايشة.
فالدولة المذكورة لم تكن إلاّ آخر المحطّات التاريخيّة التي امتنعت عن دمج الأقوام في “شعب” بالمعنى المعاصر للكلمة. هكذا امتنع نشوء مجتمع سياسيّ يتقدّم منه الفرد بوصفه مواطناً فرداً، فحُكمنا بأن نبقى سنّةً وشيعةً، وعرباً وموالي، وفرساً وعجماً، ومسلمين وأهل ذمّة الخ. ومن الموقع هذا دخلنا، أو بالأحرى أُدخلنا، إلى العالم الحديث مع قدوم الاستعمار الغربيّ، الفرنسيّ والبريطانيّ تحديداً، وتمّ صبّ جماعاتنا في أوعية سياسيّة ودستوريّة تسمّى الدول. أمّا القاطنون داخل حدود هذه الدول فغدوا شعوباً، أو هكذا جرت تسميتهم.
والأمر لم يخل من تجارب وامتحانات جرى أهمّها في سوريّا التي اتّخذت أشكالاً وارتسمت خرائط عدّة في غضون أقلّ من عقود ثلاثة. وهذا ناهيك عن مناطق محيّرة كان لا بدّ من تثبيت هويّة وطنيّة ناجزة لها، كحال منطقة الموصل التي ضاعت ما بين كونها جزءاً من العراق البريطانيّ وكونها جزءاً من سوريّا الفرنسيّة قبل أن تستقرّ على الهويّة الأولى.
مع الاستقلالات لم يحصل ما يكفي من عوامل التقريب بين هذه الشعوب وتحويل مللها ونحلها إلى مجتمعات وطنيّة. صحيح أنّ نظاماً للمواصلات وسوقاً للعمالة ومنهاجاً للتربية والتعليم غدت تربط بينها وتخلق شيئاً من التناغم والانسجام. إلاّ أنّ ذلك ترافق مع إعاقات كبرى بعضها تُرك على حاله وبعضها تعرّض للتوسيع والاستفحال.
فملكيّات الأرض الكبرى لم تُمسّ، وكان هذا مستبعداً في ظلّ هيمنة طبقة ملاّكي الأراضي على الأوضاع السياسيّة الجديدة. وبهذا حُكمت قطاعات عريضة من فلاّحي الأرياف بالبقاء أسيرة عزلتها وهامشيّتها وبُعدها عن الحياة والمشاركة السياسيّتين. كذلك لم يُبذل الجهد الكافي لتطوير أيّ وعي بالوطنيّات الحديثة، فكانت الدعوات العروبيّة ومن بعدها الإسلامويّة تُقدّم ضدّاً على هذه الوطنيّات “الانعزاليّة” والمؤقّتة. لقد كان يُبنى الوطن الجديد مادّيّاً بيد، وباليد الأخرى يتمّ تقويضه إيديولوجيّاً عن طريق رسمه كمجرّد اصطناع استعماريّ لا بدّ من تجاوزه في لحظة مجيدة ما.
وفي هذه الحدود اضطلع قيام إسرائيل ونشوء القضيّة الفلسطينيّة بدور مركزيّ في تقديم “العرب” ككلّ يتعدّى الأوطان والحدود ويلتحم حول مسألة مصيريّة ومقدّسة.
وأهمّ من كلّ ما عداه أنّ الكثير من الأنظمة الاستقلاليّة تماهى مع تراكيب ملليّة وجماعاتيّة تبعاً لتفاوت النموّ داخل هذه الكيانات، فضلاً عن تفاوت مواقف الجماعات نفسها من الدول الناشئة ومدى ولائها لها. هكذا، مثلاً لا حصراً، ارتبطت الدولة العراقيّة الجديدة برجحان السنّة العرب فيها مثلما ارتبطت الدولة اللبنانيّة الجديدة برجحان المسيحيّين عموماً والموارنة منهم بصورة خاصّة.
بعد ذاك كانت مرحلة الانقلابات العسكريّة التي لم تكتف بالحفاظ على سلبيّات المرحلة الاستقلاليّة الأولى بل فاقمتها. صحيح أنّ الأنظمة العسكريّة التي نشأت عن الانقلابات اعتمدت اجراءات إصلاح زراعيّ قوّضت سلطة المالكين الزراعيّين القدامى. بيد أنّ تلك الاجراءات نفسها، ذات الطابع البيروقراطيّ والفوقيّ، اقتصر إنجازها على توسيع قاعدة السلطة في الأرياف. وبدل إطلاق المبادرة والحيويّة السياسيّتين لهذه الفئات المقصيّة تاريخيّاً، صير إلى إحكام ربطها بالأنظمة الجديدة، ومن ثمّ تثبيت عطالتها السياسيّة وتكريسها. وفي حالات كثيرة، كحالة سوريّا خصوصاً، قُلب اللون المذهبيّ للسلطة بلون آخر كانت المؤسّسة العسكريّة قاطرته إلى التحكّم والنفوذ. هكذا لم يتغيّر شيء في ذاك التماهي بين السلطة وبين جماعة أهليّة معيّنة، بل اكتسب الشكل الجديد من التماهي طابعاً من الإحكام الإيديولوجيّ افتقر إليه الشكل السابق.
وبعد أن حافظت الأنظمة الاستقلاليّة على البرلمانات والإدارات التي ورثتها عن الحقبة الاستعماريّة، وكان هذا احتمالاً ممكناً لتطوّر سياسيّ ودستوريّ، عطّلت الأنظمة الانقلابيّة كلّ ما وقعت يدها عليه. فالبلد صار من دون مؤسّسات ومن دون دساتير. وهذا، بدوره، خنق الحرّيّة في ما خصّ الأفراد والجماعات سواء بسواء، وجعل التعبير عن كلّ خصوصيّة عملاً مشبوهاً يتمّ في الخفاء. وبالفعل تطوّرت في الخفاء، وعلى نحو محتقن، كلّ اتّجاهات التعبير الذاتيّة، أكانت ثقافيّة وفكريّة أم دينيّة ومذهبيّة وإثنيّة. وكان من الطبيعيّ أن يتعاظم نموّ هذه الأخيرة في ظلّ التطييف والمذهبة اللذين يقوم عليهما النظام العسكريّ.
هكذا يبدو من الطبيعيّ، مع الانفجارات التي أحدثتها ثورات “الربيع العربيّ” أن ينفجر عالمنا كلّه تحت أنوفنا. والظاهر أنّ أكثر ما يزخر به هذا العالم هو تأسيسنا ذاتَنا كملل ونحل!
موقع 24