نحن وانتخابات اليمين الفرنسي/ نجاتي طيّارة
اقترعت فرنسا، قبل أيام، على المرشحين الرئيسيين الذين سيتوحد حولهم ما يمكن تسميته اليمين المعتدل، وهو الذي يضم اليمين والوسط، خارج اليمين المتطرّف من مارين لوبان وغيرها. وهذا الاقتراع، أو ما سميت الانتخابات التمهيدية التي تقام على مرحلتين، جرت الأولى منها قبل أيام، وحققت فوزا كبيرا لرئيس الوزراء الفرنسي السابق، فرانسوا فيون، تلاه رئيس وزراء ووزير خارجية سابق وعمدة بوردو حاليا، هو آلان جوبيه، بفارق كبير، كما حققت هزيمة حاسمة للرئيس السابق، نيكولا ساركوزي، وزعامته المفترضة لليمين.
حدثت هذه الانتخابات، للمرة الأولى، بهذه الطريقة في تاريخ فرنسا، وهي نتاج تطور خبرة الاقتراع الديمقراطية، على الرغم من جماع الخبرة الفرنسية السبّاقة في هذا المجال. وربما كان ذلك على وقع الانتخابات الأميركية التي يقترع فيها جماع المواطنين الأميركيين على كل من مرشحي الحزبين الرئيسين الجمهوري والديمقراطي. أي أن المواطنين الفرنسيين الذين يحق لهم الاقتراع، بحسب السن القانونية، صوّتوا لمن سيعتمده اليمين الفرنسي الذي اتفقت أكبر أحزاب اليمين والوسط على تقديم سبعة مرشحين إلى انتخاباته التمهيدية، كان ستة منهم في الواقع من حزب الجمهويين، وذلك بعد استبعاد أربعة مرشحين، كانوا محتملين قبل بدء هذه الانتخابات.
بالنتيجة، بلغ عدد المشاركين أكثر من أربعة ملايين شخص، كان من بينهم نحو 15% من الناخبين الاشتراكيين الذين قدّر المراقبون أنهم شاركوا بكثافةٍ في اللعبة الانتخابية اليمينية، للتأثير فيها والمساهمة في إسقاط المرشح ساركوزي، وقد نجحوا في ذلك حقاً! وهذا ما يشير إلى فعالية اليسار الفرنسي وإمكاناته فيما لو توحد، واستثمر طاقاته. على الرغم من أن هذا المسار يبدو بعيداً في ظل حالة الضعف والتراجع وفقدان الشعبية التي وصل إليها في الولاية الحالية للحزب الاشتراكي، ورئيسه فرانسوا هولاند، الذي لم يسبق أن وصل أحد من الرؤساء الفرنسيين السابقين إلى مثل درجته المتدنية في انخفاض الشعبية. لكن، لا بد للضغوط السياسية والاجتماعية من أن تضطر اليسار الفرنسي إلى مواجهة التحدي التاريخي في ذلك، وربما تكون قد بدأ أول تجلياتها مع بيان بعض المثقفين والفنانين الفرنسيين الصادر قبل أيام، والداعي إلى استعادة دعم هولاند، وكشف الزيف الذي تعرضت له رئاسته (!).
من جهة أخرى، تضمنت عملية الاقتراع نفسها تضامناً غير ملزم، تمثل بالتوقيع على ميثاق قيم اليمين، وتبرعاً صغيرا بقيمة اثنين يورو، للمشاركة في تغطية نفقات العملية الانتخابية. كما
“ليس للظاهرة الترامبية رجع قوي في الصراع السياسي الفرنسي الراهن” أكدت إجراءاتها ما صار بديهيا من مقومات الاقتراع الديمقراطي الحر والفردي، حيث سجل المواطنون الفرنسيون المقترعون أنفسهم مصوتين، عبر الحصول على بطاقة الانتخاب وتحديد مكان الإقامة، لكيلا يحدث تكرار في تصويتهم، بخلاف ما كان يحدث أو يتكرّر حدوثه في انتخاباتٍ، أو ما استحق اسم (البيعات) في معظم البلدان العربية، وأولها سورية، والتي يصوّت المواطن أو الشخص الفرد فيها خوفاً ورهبة، أو ضحكاً وتمثيلاً، لكن مراراً، لكي يحوز على رضى (وإعجاب) ممثلي النظام، أو من يظهرون في مواقع المسؤولية والإشراف على صناديق الاقتراع. كما يصوّت العسكر بطوابيرهم، والميتون ربما بأرواحهم! عداك عن الغائبين والمسافرين والمهاجرين، لا في سفارات النظام فحسب، بل وفي قوائم وأعداد طابشة، بل ومضاعفة عن قوائم المسجلين في لوائح السجل المدني وقيوده.
المهم أن جوبيه وساركوزي وفيون وخمسة آخرين تنافسوا، وفاز أخيراً في هذه المنافسة الديمقراطية فيون، وتلاه جوبيه، ولو بفارق كبير كما سلف، وستكون هناك مناظرة بينهما قبيل الاقتراع الثاني، ليفوز أحدهما ويصبح مرشح اليمين للانتخابات الرئاسية الفرنسية التي ستجري بعد أشهر. والتي ستترجم تنافساً بين برنامج فيون اليميني المتطرف الذي تتقدّمه ملامح الليبرالية المحافظة اقتصاديا واجتماعياً، من إلغاء حوالي نصف مليون وظيفة وتسريح العاملين فيها، وتوسيع السجون إلى عقوبات جنائية للأطفال (بحسب الأمم المتحدة كل من لم يبلغ الثامنة عشرة) الأجانب وترحيلهم، إلى جانب السياسة الخارجية المتجهة إلى التعاون مع روسيا ونظام الإجرام الأسدي، ودائما بالذريعة الرائجة لمكافحة الإرهاب وتوظيفاتها المتجدّدة، معزّزة بصداقة شخصية مع بوتين، ونزعات عنصرية برزت في خطاب حملته الانتخابية الداعية إلى حماية مسيحيي الشرق، بغض النظر عن باقي سكان الشرق وأكثرياته أو أقلياته الأخرى. وذلك في انحدار غير مسبوق لقيم وثقافة وإعلانات حقوق الإنسان والمواطن التي كانت فرنسا منطلقها الأول، لتعود إلى درك ومستنقع ثقافة الطوائف وعنصرية الحروب الصليبية.
سيتنافس برنامج فيون ذاك مع برنامج يميني آخر، يقوده آلان جوبيه، لكنه ديغولي أو شيراكي
“برنامج فيون اليميني المتطرف، تتقدّمه ملامح الليبرالية المحافظة اقتصاديا واجتماعياً” بامتياز، ويتبنى خطاباً مرناً ووسطياً في قضايا كثيرة، فضلا عن أنه صاحب خبرة متميزة في السياسة الخارجية، وله موقف حاسم، لم يتعرّض حتى تاريخه، للتغيير أو التأهيل الدارجين أوروبيا بخصوص الصراع في سورية، ويترجمه قوله المعروف: لن يكون هناك سلام في سورية ما دام الأسد في الحكم.
وعلى الرغم من كل الضجيج والانحدار الجاري في بعض خطابات المتنافسين الفرنسيين، يبدو أنه ليس للظاهرة الترامبية رجع قوي متبد في الانتخابات والصراع السياسي الفرنسي الراهن، على الرغم من انتعاش الجبهة الوطنية وزعيمتها لوبان بها، ومحاولتها استثمار فوز دونالد ترامب برئاسة الولايات المتحدة وخطابه، ما يؤكد من جديد تميز فرنسا، وعمق (وقوة) تقاليدها وقيمها الديمقراطية، وذلك ما يمكن اعتباره ثقلاً وازناً في السياسة الأوروبية، إلى جانب الثقل الألماني المتميز، واللذان يلعبان الدور القيادي في القارة الأوروبية العجوز الحكيمة التي لا يمكن مقارنتها بفرجة ترامب وظاهرته المتمادية في أكثر من مكان.
العربي الجديد