صفحات الرأي

نحو إمبرياليّة أميركيّة بجناحين نوويين/ خليل عيسى

 

 

يفيد استعمال مثل لبناني شعبي في السياسة الخارجية الأميركية “يا رايح، كتّر قبايح”، والرئيس الأميركي، باراك أوباما، بالنسبة للعرب هو قباحة السياسة الإمبريالية الأميركية مجسّدة. فكما لو أنّ كلّ ما فعله الرجل في السنوات الثماني الماضية من تقوية إيران ومساعيها الإجرامية في العالم العربي عبر ضخّ الأموال لها بلا انقطاع وتسليح مليشياتها في كلّ مكان لم يكن كافيًا، أراد المحبوب أن ينهي معروفه معنا على قدر محبّته العميقة لنا، فلم يجد أفضل من إعطاء إيران كل مكوّنات حصولها على أول قنبلة ذريّة (!)، فقد أوردت وكالة أسوشييتد برس خبرًا حصريًا مفاده بأنّ “الهدية الأخيرة” التي قدّمها الرئيس الأميركي الذي يبكي رحيله الإعلام الإيراني في كلّ مكان لم تكن أقلّ من 130 طنًّا من اليورانيوم الطبيعي يكفي لتصنيع 10 قنابل نووية، حين أوعز إلى القيصر السفّاح، الرئيس الروسي فلاديمير بوتين (لا غير!) بتسليمها إلى مرشد الجمهورية الإسلامية، علي خامنئي. هذا وللمناسبة بينما لا يكلّ ولا يملّ فتيان أوباما في الإعلام الاميركي، مثل صحيفتي واشنطن بوست ونيويورك تايمز، باتهام الرئيس الجديد، دونالد ترامب، بأنّه “صديق روسيا” على مدار الساعة. بالإضافة إلى ذلك، أعطى أوباما 10 مليارات من الدولارات الاميركية بخشيشًا ليشتري بها الملالي محبّو السلام صواريخ أميركية وألعاباً روسيّة ليقصفوا بها مدننا العربية. (“أسوشييتد برس”، 10 كانون الثاني/ يناير 2017).

هذا كله ليس من دون علاقة بفوز ترامب الرئاسي. كان فوز الملياردير الأميركي صدمة للإستابلشمنت الذي كان ينتظر أن تفوز هيلاري كلينتون، ليكمل ما بدأه أوباما: تحالفٌ متواصل ومتزايد مع إيران مموّه بالكلام المستمرّ عن “ضرورة إنشاء دولة فلسطينيّة” أو “الحرب على الإرهاب” في كل مناسبة، لكن فوز ترامب الذي أعلن أنه يريد “إلغاء الاتفاق النووي في أوّل يوم من الرئاسة” غيّر من هذا كله. حينها، انتقل أوباما إلى خطة الطوارئ، وقوامها فعل المستحيل، لكي لا يتمكن خليفته من إلغاء الاتفاق ومفاعليه الحقيقية ضدّنا نحن العرب. هكذا، ومن بين أمور عديدة لا يسع ذكرها كلها هنا، قللت إدارة أوباما من شأن تجارب صواريخ الباليستية التي تجريها إيران في خروق متكرّرة للاتفاق، ولم يقم بالإمضاء على قرار الكونغرس الأميركي تجديد العقوبات على إيران التي تتمّ أوتوماتيكيّاً كلّ عشر سنوات، وأغدق الأموال على حكّام طهران، ما سمح لهم أخيراً بزيادة حصّة وزارة الدفاع لديهم من 15.6 مليارًا الى .117 مليارًا من الدولارات (وكالة أخبار الطلبة الإيرانية، 10 إبريل/ نيسان 2016). ومن يدري، ربما يكون سبب ذلك كله مطالبة اوباما إيران بتجنيد مزيد من المليشيات الأفغانية والعراقية واليمنية لقتلنا بشكل أفضل!

تحقّق الإرث الأوبامي حتى نهايته المنطقيّة يعني تسيّد إيران وكل من يتحالف معها على الدول

“أوباما يحمي إيران ويشجعها على خرق الاتفاق النووي، لا بل يساعدها على ذلك” والمجتمعات العربيّة، بينما ستكون أميركا خلف الجميع. سيغرق العرب أكثر فأكثر في حربٍ أهليّةٍ قوميةٍ، لا تبقي ولا تذر، ستوفّر للجميع فرصًا ذهبيّة باختراقنا استعماريًّا بدءاً من المستوى العسكري حتى النفسي والثقافي. سيعني ذلك تدميرًا للأّمة وتفتيتًا حضاريًا لها (تدمير المدن وقصفها بحجة “محاربة داعش”) واقتصاديًّا (تحويل المجتمعات إلى اقتصاديات حروب دائمة) ونفسيًّا (بين إحساس مستديم بالعجز وردّات فعل مذهبيّة متعاظمة على توغّل استعماري تفاضلي، تحتلّ إيران مركزه).

أما الهدف البعيد المدى من ذلك كله فهو إعادة استعمار العرب، سرطانيًّا هذه المرّة، لتنتهي أحشاء مجتمعاتنا مرميّةً في مخيّمات اللاجئين في كلّ مكان. مستقبلًا لن يُستبعد من هذه الديناميكية أيّ طرف يوافق على الانخراط فيها، بدءاً من الكيان الصهيوني الذي يخدمه استراتيجيًّا ما تفعله إيران بنا، والذي قد يحكمه في أيّ لحظة حكومة يسار صهيوني يغازل إيران بشكل مفتوح، مرورًا بالانقلاب الخاطف للسياسة الخارجيّة التركية التي باتت تتحالف علناً مع روسيا وإيران راهنًا ما ستكون نتيجته إبقاء لنظام الأسد في الحكم، بينما يعيش المجتمع التركي بين ضغطٍ قوامه النوازع الأوتوقراطية للرئيس التركي، رجب طيّب أردوغان، المقلقة للديمقراطيين الأتراك والعرب معًا، إسلاميين وعلمانيين، وبين تهديدات جدّية لأمن تركيا من إرهابيي حزب العمال الكردستاني و”الجهاديين”، وصولًا إلى دولة عربيّة مثل مصر يغازل فيها السيسي الأوتوقراطي إيران ونظام الأسد.

وعلى الرغم من أنّ الرئيس ترامب سيمتلك، بعد 20 يناير/ كانون الثاني الجاري، القدرة الأكبر على تقرير مسار السياسة الخارجية للإمبراطورية الأميركيّة، لكن سيكون عليه التعامل مع إرث سلفه الأسود. ويمكن لنا القول، بضمير مرتاحٍ، إنّ أوباما الذي هَندَس تحالفًا أميركيًّا- إيرانيًّا لم يسهّل على ترامب وقف مفاعليه، حتى لو أراد الأخير ذلك، فقد مأسَسَ أوباما تحالفًا مع إيران عبر ما عُرِفَ “بإطار الاتفاق النووي” أبرمه (خارج إطار الأمم المتحدة، لا يجب نسيان ذلك) مع الدول الكبرى، وحصل بموجبه على موافقة ألمانية- إنكليزيّة عليه، ثم فرنسيّة، بعد تمنّع أولّي، واستطاع فرضه حتى ضد رغبات اليمين الإسرائيلي في تل أبيب. لكن، بعد فوز ترامب، ازداد الضغط الإعلامي الهائل من الأوباميين وملحقات “الإستابلشمنت”، لثنيه عن تحقيق خططه حيال إيران خلال الشهرين الماضيين. والواضح، مثلاً، أنّ الإستابلشمنت يعتبر إرادته في ملف السياسة الخارجيّة أمراً يتجاوز إرادة المواطنين الأميركيين الذين صوّتوا. وقد عبّر أوباما عن ذلك بوضوح، حين قال “سيكون من الصعب على الرئيس المنتخب أن يلغي اتفاقاً يعمل بشكل تام. عندما سيستلم ويأتي لأخذ المشورة من زملائه الجمهوريين، سيرون الوقائع على الأرض. لكي تلغي اتفاقاً يعمل، ولكي تمنع إيران من بناء سلاح نووي سيكون أمراً من الصعب شرحه، خصوصاً إذا عنى ذلك أنك ستترك إيران حرّة لإعادة بناء برامج أسلحتها” (“بلومبرغ”، 15 نوفمبر/ تشرين الثاني 2016).

إصرار أوبامي على دفع الأمور باتجاه اللاعودة هو ما يجب أن يكون مقلقاً لنا، نحن العرب.

“علينا العرب أن نتعامل مع واقع أمن قومي مختلف جذريًّا من الآن فصاعداً: النسر الأميركي يحوم فوقنا بجناحيه النوويين، إيراني وإسرائيلي” فالإستابلشمنت مصرّ على جعل التحالف مع إيران أمرًا واقعًا، يُفرض على الإدارة الأميركية الجديدة. هنا، لا يمكن تفسير شحنات اليورانيوم الطبيعي الهائلة التي تمّ تسليمها إلا بشكل وحيد أوحد. فحجة إبرام الاتفاق النووي مع إيران التي ردّدها أوباما (بشكل كاذب، كما اتضح للجميع لاحقًا) بلا كلل أو ملل هو أنّ اتفاقاً مع إيران يؤخر حصول الأخيرة على الطاقة النووية الكاملة 15 عاماً على الأقل، ويضمن عدم استعمالها الطاقة النووية لأغراض عسكرية. لكن ما يحصل في الحقيقة هو عكس ذلك: بعد اتفاق “الإطار النووي” ما نراه هو تسريع في حصول إيران على كل الموارد الممكنة من مالية وعسكرية ونووية، لا بل يحدث الأمر تحديدًا بفضل هذا الاتفاق! والواقع الواضح للعيان أنّ أوباما إنّما يحمي إيران ويشجعها على خرق الاتفاق النووي بشتى الطرق، لا بل يساعدها على ذلك في مستوياتٍ صادمة على أقلّ تقدير. ولهذا، الاستنتاج الوحيد المنطقي الذي يتبقى لنا أنّ الإستابلشمنت يملك خططًا لثني ترامب عن تحقيق هدفه، حتى بعد استلامه البيت الأبيض في 20 يناير الجاري. ولمن لم يفهم بعد ما نقصده، يمكنه أن يتخيّل ماذا سيحدث إذا ما فجّرت إيران أول قنبلة تجريبية نووية قريبًا، بفضل شحنات أوباما من اليورانيوم. هذا سيعني أنّ خطّة آية الله أوباما تحققت: إيران دخلت النادي النووي، ولم يعد باستطاعة ترامب فعل شيء حيال الأمر حتى لو كان أراد أن يغيّر هذا الواقع. وسيمسي حينها موضوع التأثير على نظامٍ موغل في الإجرام مزوّد بقنابل نووية عملية عظيمة الصعوبة. وهذا سيعني أنه علينا العرب أن نتعامل مع واقع أمن قومي مختلف جذريًّا من الآن فصاعداً: النسر الأميركي يحوم فوقنا بجناحيه النوويين، إيراني وإسرائيلي، وينهش في دمائنا وأولادنا ومدننا.

العربي الجديد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى