نحو إنهاء ثقافة الإفلات من العقاب في سورية/ رضوان زيادة
يعطي تطبيق ثقافة المساءلة مكان ثقافة الإفلات من العقاب إحساساً بالأمان للضحايا، ويوجه تحذيراً لمن يفكرون في ارتكاب انتهاكاتٍ في المستقبل، كما أنه يعطي قدراً من الإنصاف لمعاناة الضحايا، ويساعد على كبح الميل إلى ممارسة العدالة الأهلية أو القصاص (أي أن يقتصّ الناس لأنفسهم بأنفسهم)، كما أنه يتيح فرصة مهمةً لتوطيد مصداقية النظام القضائي الذي أصابه الفساد والدمار، أو الذي لم يكن يعمل على نحو سليم في ما مضى، هذا هو المبدأ الذي تعمل عليه دولة القانون في العالم اليوم.
كشف تقرير منظمة العفو الدولية حجم جرائم التعذيب المرتكبة في سورية، وخصوصا في سجن صيدنايا الذي كان يعتبر من “أفضل” السجون في سورية، مقارنة مع ما جرى ويجري يوميا في تدمر أو سجون المخابرات في كل المدن السورية. الفظائع التي ذكرها التقرير، بعنوان “المسلخ البشري”، يصعب على أي إنسان اليوم تخيلها في العصر الحديث، إنها تنتمي إلى ما كنا نسمعه أو قرأناه في دول أخرى، مثل كمبوديا تحت الخمير الحمر أو رواندا تحت حكم الهوتو المتطرّف؛ لكن لا بد من تأكيد أن هذا النوع من الممارسة المنهجية وواسعة النطاق في سورية لم تتم اليوم فقط، وإنما استمرت نصف قرن، لكن مع بداية الثورة السلمية أخذ العقاب الجماعي أوجه في السجون والمعتقلات السورية. إنه نوع من معاقبة شعب بأكمله على ثورته ضد نظام الاستبداد والقهر والظلم.
وبالتالي، بدل أن نقع تحت الصدمة في كل مرة نرى فيها تقارير من مثل هذا النوع، وقبلها صور قيصر، وقبلها صور المعتقلات الجماعية، وقصص الموت اليومي في سجون المخابرات السورية، علينا أن نفكر كيف يمكن تجاوز هذا الاستعصاء القانوني في عدم محاكمة نظام الأسد على جرائم الحرب، والجرائم ضد الإنسانية التي ارتكبها بحق الشعب السوري يومياً، ولمّا كانت محكمة الجنايات الدولية تبدو بعيدة المنال بسبب عدم توقيع سورية على اتفاق روما أساسي المنشأ للمحكمة ورفض روسيا واستخدامها حق النقض (الفيتو) في منع إحالة هذه الجرائم إلى محكمة الجنايات الدولية، بقرار من مجلس الأمن. هنا يجب أن نبدأ التفكير في آليات دولية أخرى وجديدة، لإنهاء دورة العنف، وإنهاء ثقافة الإفلات من العقاب التي كانت عقيدة نظام الأسد خلال حكمه سورية خمسين عاماً.
ومن هنا، كانت مبادرة دولتي قطر وليتشنشتاين في تقديم قرار صوّت له بأكثرية 105 دول
“من المهم أن لا تكون المحاكمات انتقائية أو انتقامية، لكنها يجب أن تعطي السوريين أملاً” في الجمعية العامة للأمم المتحدة 71/ 248، لإنشاء آلية دولية محايدة ومستقلة، للمساعدة في التحقيق ومحاكمة الأشخاص المسؤولين عن أخطر الجرائم، بموجب القانون الدولي التي ارتكبت في الجمهورية العربية السورية. واعتمد القرار في 21 ديسمبر/ كانون الأول 2016، هذه الآلية التي تهدف إلى وضع قضية المساءلة عن سنوات الفظائع في سورية ضد المدنيين أولوية لها.
وقد نظم المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات في واشنطن العاصمة لقاءً جمع بين سفيري قطر وليتشنشتاين اللذين قدما مشروع القرار، السفيرة علياء أحمد سيف آل ثاني، الممثل الدائم لدولة قطر لدى الأمم المتحدة، وكريستيان ويناويسر، الممثل الدائم لإمارة ليختنشتاين لدى الأمم المتحدة. وكانت فرصة مهمة للغاية لتقديم تصورات عن المرحلة المقبلة لما بعد القرار، وكيف يمكن البناء على هذا القرار، للوصول إلى تحقيق العدالة للضحايا في سورية. وأفاد السفير ويناويسر بأن الأمم المتحدة تطلب التمويل اللازم لتنفيذ الآلية. وقد تعهدت دول، بما فيها قطر وهولندا وليتشنشتاين، بتقديم التبرعات من بعض الدول الأعضاء، ولكن هناك حاجة إلى أموال إضافية، لتحويل هذه الآلية إلى حقيقةٍ ضمن مسار الأمم المتحدة المعقد في سورية.
وأكدت السفيرة علياء أحمد سيف آل ثاني على أهمية المساءلة، عندما يتعلق الأمر بالتعامل مع الناس، وأسر الضحايا في سورية، معتبرة أن القرار هو الخطوة الأكثر عمليةً من الجمعية العامة للأمم المتحدة منذ بداية الصراع في سورية في عام 2011، فالحكومة السورية تتحمل المسؤولية النهائية لحماية المدنيين، لكنها فشلت عاما بعد عام، وأصبح حجم جرائم الإبادة الجماعية والجرائم ضد الإنسانية يفوق الوصف. وبالتالي، يضمن القرار احترام القانون وتوفير العدالة للضحايا، ويتطلب تقديم معلومات موثقة، تمهد الطريق لتحقيق العدالة الجنائية، وبناء مستقبل مختلف في سورية.
مرّت مجتمعات كثيرة بما مرت به سورية من قبل في فترة الثمانينيات، وما تمر به اليوم، ولا سيما في أفريقيا وأميركا اللاتينية، لكنها استطاعت، في ما بعد، أن تخرج من تلك الفترة
“من المنتظر أن تشهد فكرة المحاسبة جدلاً كبيراً بين إمكانية قدرة المحاكم الوطنية على محاسبة المجرمين، أو أن يضطر السوريون للجوء إلى محاكم دولية أو مختلطة” السوداء في تاريخها، عبر فتح صفحة جديدة قائمة على الحقيقة والمحاسبة والعدالة، ومن ثم المصالحة، وهو ما يطلق عليها “العدالة الانتقالية” التي تشير إلى حقلٍ من النشاط أو التحقيق، يركز على المجتمعات التي تمتلك إرثاً كبيراً من انتهاكات حقوق الإنسان، والإبادة الجماعية، أو أشكال أخرى من الانتهاكات، تشمل جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية أو الحرب الأهلية، وذلك من أجل بناء مجتمع أكثر ديمقراطية لمستقبل آمن. يمكن إدراك المفهوم من خلال مصطلحاتٍ تدخل ضمنه، مثل إعادة البناء الاجتماعي، والمصالحة الوطنية، وتأسيس لجان الحقيقة، والتعويض للضحايا، وإصلاح مؤسسات الدولة العامة التي غالباً ما ترتبط بها الشبهات في أثناء النزاعات الأهلية الداخلية المسلحة، مثل الشرطة وقوى الأمن والجيش.
وفي صلب العدالة الانتقالية هذه، تكون المساءلة وتحقيق العدالة، والتي تشمل اتخاذ الإجراءات القضائية ضد مرتكبي جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية التي جرت في سورية خلال فترة الثورة. ويمكن لهذه المحاكمات استهداف مرتكبي هذه الجرائم أو التركيز على العاملين في المستويات القيادية العليا في هيكلية نظام الأسد، المسؤولين عن إصدار أوامر بتلك الانتهاكات والجرائم، أو الذين لديهم صلاحيات إدارة نافذة على مرتكبي تلك الجرائم، ولا يستثنى من ذلك من ارتكب الانتهاكات ضد المدنيين من المعارضة المسلحة، ويتعين إجراء هذه المحاكمات، بما يتفق مع معايير المحاكمات العادلة في إجراءاتها، لتجنب أي طعون في مشروعيتها.
ومن المنتظر أن تشهد فكرة المحاسبة جدلاً كبيراً بين إمكانية قدرة المحاكم الوطنية على محاسبة المجرمين، أو أن يضطر السوريون للجوء إلى محاكم دولية، أو محاكم مختلطة، من أجل محاسبة هؤلاء المجرمين.
تدفع الآلية الجديدة التي أقرت في الجمعية العامة للأمم المتحدة باتجاه إنشاء محكمة خاصة مختلطة، تتكون من قضاة سوريين، مع الاستعانة بقضاة دوليين، بإشراف الأمم المتحدة، لمحاسبة مرتكبي الجرائم في فترة الثورة، وتكون هذه المحكمة خاصة، بتوقيتها وآلياتها، وتطبق كلاً من القانون الدولي والوطني السوري (المحلي). ويمكن الاستعانة بقوانين (ونصوص) المعاهدات الدولية التي وقعت عليها سورية، من أجل تطوير الإجراءات الخاصة بالمحكمة ونظامها القضائي. تهدف المحاكم المختلطة والمقترحة بشأن سورية إلى تعزيز ملكية الضحايا السوريين من الأفراد لعملية الإجراءات الجنائية، وفي الوقت نفسه، ضمان النزاهة الخاصة بالمحاكم الدولية.
كما يعتبر من أهم التحديات تحديدُ الأشخاص والجهات التي يجب محاسبتها، فمن المهم أن لا تكون المحاكمات انتقائية أو انتقامية، لكنها يجب أن تعطي السوريين أملاً بأن زمن الإفلات من العقاب انتهى، وأن زمناً للعدالة والمحاسبة سيكون قادراً على بناء سورية الجديدة.
العربي الجديد