نحو حلّ ديمقراطـي للقضية الكرديّة في سوريا: جمال باروت
جمال باروت
مما لا ريب فيه أن الحركة الكرديّة السوريّة بمجملها فوجئت بانتفاضة الشعب السوريّ، التي أربكتها، حتّى إنها اتخذت موقف المراقب السلبي الذي ينتظر التطوّرات. وإذا حاولنا تفهّم سلوكها هذا، يمكننا تحديد الأسباب التالية لمخاوفها الممكنة:
– عدم وضوح ما بعد عملية التغيير والثورة بالنسبة إليها.
– المخاوف الكبيرة من التنسيق التركي مع مجموعات المعارضة السورية، وتحوّل تركيا إلى أحد أهم الأطراف المؤثرة في تطورات ووتائر الثورة السورية.
– احتدام الخلاف العراقي-الكردي (البارزاني-الأوجلاني) [1] حول مصير أكراد سورية في «اليوم التالي» لسقوط النظام، الذي حل محلّ الخلاف البارزاني-الطالباني [2] التقليديّ. وليس تأليف الهيئة العليا المشتركة بين المجلس الوطنيّ الكرديّ والاتحاد الديمقراطي إلا تعبيرًا عن هذا الاحتدام.
الأهم من ذلك كلّه بالطبع هو فصل الحركات الحزبية الكرديّة (وليس الأكراد عمومًا) لهمومها عن هموم الشعب السوريّ الثائر، ويعزى ذلك أيضًا إلى حساباتها، ليس فقط الجزئيّة القومية، بل أيضًا الحزبية الضيّقة. فهناك عدد من المطالب، عرضتها المعارضة الحزبية الكرديّة في سياق هذه الاعتبارات على مدار عام ونصف، في كلّ اجتماعات المعارضة، في الداخل والخارج؛ ويمكن على العموم وضع الملاحظات التالية على أداء أحزاب الحركة الوطنيّة الكرديّة التي تأطّرت بقسمها الأكبر في المجلس الوطني الكرديّ:
– لم تكن هناك رؤية متكاملة واضحة المعالم لدى مجمل الحركة الوطنيّة الكرديّة، حيث سعت الحركة إلى تقديم مطالب الأكراد على مراحل ، وهذا ما ولّد شعورًا عامًا لدى بقية قوى المعارضة السورية مفاده أنّ الأكراد كلّما أخذوا شيئًا طالبوا في اللقاء التالي بالمزيد.
– تقليد الانسحاب : لا يكاد يكون هناك لقاء للمعارضة السورية إلاّ وانسحب منه الأكراد، حتّى أصبح الانسحاب فولكلورًا كرديًا معتادًا، وكان لهذا أثره السلبي على قوى المعارضة السورية، وعلى نظرتها إلى القضية الكرديّة.
– الاهتمام بالنصوص أكثر من الاهتمام بالإنجاز على أرض الواقع: إن مهمّة المعارضة السياسيّة الرئيسة تنحصر في بلورة رؤية ديمقراطية واضحة لبناء بديلٍ عن النظام. أما كتابة الدستور السوري فهي من مهمّة جمعية تأسيسية ينتخبها الشعب السوري كلّه. من هنا، فإنَّ الأوراق والنصوص الصادرة عنها يجب أن تركِّز على هذا البعد، وفي الإطار الوطنيّ الجامع. وهو ما أغفلته الحركة الوطنيّة الكرديّة عندما حدَّدت عملها ضمن الوسط الكردي، وبالمطالب الكرديّة فقط، وتجاهلت العمل في الإطار الأوسع، أي الشعب السوري، من أجل إقناعه برؤاها وتصوّراتها.
– الطروحات الاستفزازية غير الواقعية: على سبيل المثال طرح ممثلو المجلس الوطني الكرديّ في مؤتمر المعارضة في القاهرة في 2-3 تموز/يوليو 2011 ضرورة تضمين وثيقة المرحلة الانتقالية التعبير التالي: «إعادة الأوضاع في المناطق الكردية جغرافيًا وديمغرافيًا إلى الوضع السابق قبل عام 1963»، ولم يقبلوا بتعبير «تعويض المتضرّرين من سياسات النظام العنصرية» وحسب. وهذا التعبير الأخير بحدّ ذاته يمثل تجنيًّا، وتنازلاً تعسفيًا واعتباطيًا ومجانيًا من المجلس الوطني السوري نتيجة جهل بالحقائق والمعلومات والتاريخ، أو تجاهلها. إذ كان النظام متسلطًا تسلطًا صِرفًا على الجميع، عربًا وأكرادًا، وعلى الحريّة عمومًا، بل إنّه كان أكثر ليونةً مع الأكراد منه مع تنظيمات العرب، أي أنّه لم يكن هناك قط أيّ شكل من أشكال السياسات «العنصرية»، ولم يكن توطين الخمسة والعشرين ألف فلاح مغمور، كأقصى تقدير لعددهم، يمثِّل سوى نسبة محدودة من المغمورين الذين أُسكِنوا فوق أراضٍ للدولة السورية وليس للأشخاص، ولم تهدم في المشروع قرية كرديّة معمورة واحدة. ومن المفهوم أن تبحث الدولة عن أراض تعوّضهم بها. إذاً كان «الحزام العربي» أسطورة أكثر منه حقيقة، واستثمِرَ لغايات سياسية أبعد منها [3].
– الهوية الكرديّة الوطنيّة السورية والهوية الكرديّة الكردستانية : أدّت تفاعلات الثورة السورية على المستوى الأيديولوجي إلى تواري الصيغة الأيديولوجيّة السابقة للانقسامات الحزبية الكرديّة التقليدية بين يمين ويسار، لمصلحة بروز الانقسام بين النزعة الكرديّة الوطنيّة السوريّة والنزعة القومية الكردية الكردستانية.
– التخلص من إرث النظام: إذ لوحظ أن الأحزاب الكرديّة، كلّما وصلت الأمور إلى طريق مسدودة في النقاش، تبدأ بكيل الاتهامات للمعارضة السورية بالشوفينيّة والعقليّة العفلقية (نسبة إلى ميشال عفلق)، مع أنّ الحركة الوطنية الكرديّة بذاتها ليست بعيدة من هذه العقلية. وبداهة إن السوريين جميعًا تعرّضوا للقمع مثل الأكراد، ولا يمكن تحميل السوريين عبء ما فعله النظام، وفرض الشعور بالذنب عليهم تجاه ما لاقاه الأكراد في سورية من عسفٍ وظلم، فالنظام فرض على السوريين ألاّ يعرفوا أو يتعرّفوا إلى بعضهم بعض، وهذا ينطبق على الجميع وليس على الأكراد وحسب، ولم يبدؤوا بكسر هذه القاعدة إلاّ مع بداية الثورة عندما بدأ التواصل وأخذت المدن السورية تهتف الواحدة للأخرى.
– المشاركة في الثورة : حتّى اللحظة هناك انتقادات كثيرة لمستوى المشاركة الكرديّة في الثورة، ولهذا أثره في مستوى تفاعل القوى السياسية المختلفة مع الحقوق الكرديّة، وقد كانت الأحزاب الكرديّة تواجه هذه الانتقادات في أثناء اجتماعات المعارضة بأثرٍ رجعيّ بحيث تكون الإجابة أن العرب أيضًا لم يشاركوا في انتفاضة عام 2004 الكرديّة، أي إن نظرتهم إلى هذه الثورة ليست فقط تصغيريّة، بل أيضًا باعتبارها عربية.
الأكراد خارج المعارضة: البارزاني من جديد
كان واضحًا أن السقف العالي الذي طرحه المجلس الوطنيّ الكردي في مؤتمر المعارضة في القاهرة جاء ذريعة لانسحابه وعدم التزامه مع المعارضة السورية، بأي وثيقة من شأنها أن تشكِّل أرضية لتفاهمات في المستقبل حول المسألة الكرديّة في سورية. ويعزى هذا السلوك في ما يبدو إلى المرحلة الحرجة التي دخلتها الأزمة في سورية، وتوسّع دائرة المواجهات العسكريّة والإنهاك الحاصل للجيش في المعارك الحاصلة على جغرافيّة البلاد كلها، الذي حتّم عليه سحب بعض قواته من المناطق الكرديّة لاستخدامها في مناطق أخرى.
هكذا كانت بداية انسحاب الجيش السوريّ من المناطق الكرديّة في منزلة فرصة للأحزاب الكرديّة لتحقيق الإدارة الذاتيّة لهذه المناطق، في ظل جهوزيّة العناصر التي تمّ تدريبها عسكريًّا في كردستان العراق، والتي تضمّ مئات من المنشقين عن الخدمة العسكرية السورية، أو الفارين من الالتحاق بها بموجب نظام خدمة العلم.
بيد أن الواقع الكرديّ، وعلى الرغم من انضواء أغلبيّة الأحزاب الكرديّة في المجلس الوطنيّ الكرديّ، ظلّ يشهد انقسامات بين الكتل الكرديّة الفاعلّة، وأبرزها مجلس الشعب في غرب كردستان (وهي لجنة تابعة لحزب العمال الكردستاني (PKK) والذي يضمَّ أيضًا حزب الاتحاد الديمقراطي (PYD) ). وفي محاولة لتنسيق الموقف لمواجهة التطوّرات الناجمة عن ملامح تؤشّر إلى احتمال انسحاب الجيش السوريّ من المناطق الكرديّة، تجدَّد النشاط التنسيقي التدخليّ لرئيس إقليم كردستان العراق مسعود البازراني في المناطق الكرديّة السورية، وكان هدفه نزع التوتر من بين القوى الكرديّة ودفعها إلى التنسيق في ما بينها لاستحالة انضمامها إلى كيانٍ سياسيّ واحد.
بالفعل وقّع المجلس الوطني الكرديّ اتفاقًا مع مجلس الشعب في غرب كردستان (الذي تمّ تأسيسه في 16 كانون الأول/ديسمبر 2011) وحزب الاتحاد الديمقراطيّ (PYD) في أربيل بتاريخ 11 حزيران/يونيو 2011، وينصّ الاتفاق على تحسين العلاقات بين هذه القوى، والعمل على احتواء التوتّرات والمواجهات في المناطق الكرديّة. كما اتُّفق على تأليف لجنة عليا تضمّ ممثلين للأطراف تضمن التزامها هذا الاتفاق.
جاء هذا الاتفاق على خلفيّة اختطاف عددٍ كبيرٍ من الناشطين والمناهضين للنظام في مناطق يسيطر عليها حزب الاتحاد الديمقراطيّ، بسبب القيام بنشاط سياسي ضد النظام من دون التنسيق مع اللجان التي شكَّلها حزب الاتحاد الديمقراطيّ. لم يصمد هذا الاتفاق طويلاً، وعاود محازبو الاتحاد الديمقراطيّ عمليات الاختطاف، ما دفع رئيس كردستان العراق مسعود البارزاني إلى دعوة المجلس الوطنيّ ومجلس الشعب في غرب كردستان إلى أربيل من جديد، وتمّ توقيع اتفاق مكمِّل بتاريخ 11 تموز/يوليو 2012 لإنهاء التوترات السابقة [4].
حمل اتفاق أربيل الثاني بعدًا سياسيًّا وتنظيميًّا عندما دعا إلى تأليف لجنة مشتركة تقوم بتثبيت الأسس السياسيّة العامة، وتتولّى قيادة الحركة الكرديّة (الهيئة الكرديّة العليا)، ويكون أعضاء هذه اللجنة بالتساويّ بين المجلسين المذكورين. وفُسِّرت نتائج الاجتماع على أنّها مقدّمة لتفاهمات كرديّة-كرديّة برعاية ووصاية رئيس إقليم كردستان العراق، لبلورة نوع من التنظيم السياسيّ والإداريّ للمناطق الكرديّة التي سينسحب منها الجيش، أو سيجبر على الانسحاب منها كما حصل لاحقًا.
مع بداية شهر آب/أغسطس 2012 بدأ انسحاب الجيش السوري من المناطق الكرديّة في شمال شرق سورية، كما انسحبت قوى الأمن من مناطق عفرين في حلب، لتتولى المجالس الكرديّة إدارتها [5]. ونفِّذ اتفاق أربيل على الأرض بتوحيد الأكراد في التظاهرات التي انطلقت في 10 آب/أغسطس 2012 ضمن الجمعة التي أطلقت عليها الهيئات التنظيمية في الثورة اسم «دير الزور.. النصر القادم من الشرق»، والتي رفضتها الأحزاب الكرديّة ورفعت شعار «الوحدة الكرديّة». وكانت هذه أوّل مرة، تنطلق فيها تظاهرة احتجاجيّة كرديّة يشترك فيها محازبو الاتحاد الديمقراطيّ الكردي، وأحزاب المجلس الوطنيّ الكرديّ، وتنسيقيات شباب الكرد. وبذلك صارت المناطق الكرديّة في شمال شرق سورية وعفرين وبعض قرى حلب تتبع في إدارتها وأمنها هيئات كرديّة تمّ تأليفها بناء على اتفاق أربيل2 (هولير). الأمر الذي ترك هواجس عدّة لدى العرب السوريين عن نيات وطموحات الأكراد السوريين، والتخوّف من استغلال حالة الفوضى الناجمة عن المواجهات العسكريّة للسير في سيناريوهات انفصالية أو تقسيميّة، تجعل هذه المناطق تابعة لإرادات إقليميّة مثل إقليم كردستان العراق الذي يحاذي محافظة الحسكة، أو تابعة لإرادات حزبيّة مثل حزب العمال الكردستاني (PKK) الذي يشكل حزب الاتحاد الديمقراطيّ الكردي امتدادًا له.
إن ولوج الأكراد هذا السيناريو أو تحفيزه من شأنه أن يفتح الباب لاضطراباتٍ في المستقبل بين مكوِّنات الشعب السوري على أسسٍ قوميّة، ويعطي الذرائع لبعض اللاعبين الإقليميين للتدخّل في الشؤون السورية بحجّة الحفاظ على أمنهم القوميّ، وهو ما دأبت الأحزاب الكرديّة على المزايدة به أمام فصائل المعارضة السورية.
أسس لحلّ ديموقراطي
نتج من مجمل صيرورة نشوء المجتمعات الكردية المحليّة السورية في بلاد الشام تمييز مجتمع أكراد الدواخل الذين كانوا مندمجين في المنظومة الاجتماعية والإدارية الشاميّة عن أكراد الأطراف الشمالية من بلاد الشام ومحيطها اللصيق. وتشكّل مجتمع الجزيرة السورية الكرديّ في الأساس خلال الأعوام 1925-1970 نتيجة الهجرات التي استوعبها المجتمع السوري ووَطَّنها بشكلٍ غدا فيه حال الأكراد هو حال السوريين. وتعرَّض المجتمع الكرديّ المحليّ في الجزيرة لسياسات تمييزيّة في مجال تداول الأراضي، لكن ذلك تمّ في سياق وضعيّة المحافظات الحدوديّة كافة مع إسرائيل وتركيا، وإن شمل أراضي محافظة الحسكة كافّة، لكنّ القانون المدني السوري كان يُبطِل مفعول هذه التقييدات عبر قرارات المحاكم، وهو ما يعني أنّه لم تكن هناك قط من سياسات «عنصريّة» طُبِّقت بالفعل وفق ما ورد في صيغة المجلس الوطنيّ السوريّ، بهدف استيعاب المطالب الكرديّة في الثورة، وأنّ ما هو عنصري – كما شرحنا في الجزء التاريخي من هذه الدراسة – كان أفكاراً ورغباتٍ فرديّة، لكن لم تتحوّل قط إلى سياسة وبرامج.
عمل المجال الكرديّ السوريّ في تاريخه من أجل غيره، أي من أجل المجتمعين الكرديين في تركيا وشمال العراق، وحوصرت رؤيته لنفسه بضغط المؤثّرَين الكردستانيين العراقي والتركي. وبالتالي شغل وظيفة المجال الوسيط، بينما تبرز الآن الضرورات التاريخية لإدراك مكانه في تحوّلات المجتمع السوري الجارية، التي ستكون فيها سورية مختلفة عما كانت عليه قبل اندلاع حركة الاحتجاجات والثورة. وفي هذا السياق يمكن تحديد بعض المسائل الأساسيّة:
– لا يسمح توزّع المجتمعات المحلية الكردية السورية الراهنة، بحكم تباعدها الجغرافي الكبير جداً، بأيّ حديثٍ ممكن عن مجتمعٍ كرديّ متواصل وممتدّ جغرافيًا ومناطقيًا وبشريًا يشكّل ما تمّ اختراعه باسم «كردستان الغربية»، وأحيانًا «غرب كردستان»، ويسمح بتصوّر قيام إقليم كرديّ سوريّ على غرار إقليم شمال العراق، إذ تفتقد وحدات المجتمع الكرديّ السوري الإجمالي تمامًا إلى ما يتميّز به المجتمع الكرديّ في كلّ من كردستان تركيا وكردستان العراق من تواصلٍ مناطقيّ وجغرافيّ وبشريّ، وهو ما تنمذجه حالة المجتمع الكرديّ المحليّ في عفرين، بينما الاتصال البشري الكرديّ ما بين أكراد عين العرب وأكراد الجزيرة يمرّ بتداخلات سكانيّة عربية كثيفة، فضلاً عن أنّ محافظة الجزيرة نفسها متعدّدة الإثنيات.
– لا يسمح هذا التوزّع بأيّ طرحٍ لحلّ «المسألة الكردية السورية» على قاعدة مفهوم «كردستان الكبرى» خارج الإطار الوطنيّ السوري، من دون إرباك وإعادة رسم الحدود السياسية القائمة للدول الراهنة. وهذا غير واقعيّ على المستويات المختلفة في منظور العقود الثلاثة المقبلة على الأقل، فالتماس البشريّ الجغرافيّ كاملٌ بين أكراد القامشلي وأكراد كردستان تركيّا، لكنّه ضعيف جغرافيًا وبشريًا مع أكراد إقليم العراق، وتتخلّله مناطق عربيّة كثيفة ومناطق متداخلة عربيّة وكرديّة، كما أنّ المسألة السورية تختلف عن المسألتين التركية والعراقية، ففي العراق وتركيا يعيش الأكراد فوق أرضهم التاريخيّة، بينما أكراد الجزيرة في معظمهم مهاجرون من كردستان تركيا إلى الجزيرة السورية. ولا شكّ في أنّ من حقهم المطالبة بحقوق المواطنة والحصول عليها مثل بقية السوريين، لكن ليس الادعاء بحقوقٍ إقليميّة، وبالتالي فإنّ صيغ الحكم الذاتيّ الإقليمّي والفدراليّة والكونفدراليّة تقوم على أساطير أيديولوجية بحت. هذا عدا عدم واقعيّتها واستفزازها للشعب السوري الثائر من أجل حقوقه، ومن أجل الديمقراطيّة للسوريين جميعًا، الذي يَدفَع ثمنًا باهظًا من أجل إنجازها. إذ تشكلت نقطة تركّز المجتمع الكردي المحليّ في الجزيرة السورية وتواصله الأساسيّ في منطقة القامشلي وعامودا بنتيجة هجرات كرديّة حديثة (1925-1965) من تركيّا إلى هذه المناطق، ما يعني أنّ معظم الأكراد السوريين اكتسبوا الجنسية السوريّة وغدوا سوريين، ولم يكونوا مجموعة قوميّة تعيش «على أرضها التاريخية» بما يسمح لها بطرح حقوق إقليم كرديّ في سورية على غرار إقليم شمال العراق، أو «اختراعه» في حقيقة الأمر.
– إن «الحق الإقليمي» بالأرض في صيغة أنّ «الشعب الكرديّ يعيش على أرضه التاريخية» هو مفهوم حديث جدًا في مفاهيم الحركة الكرديّة السورية، ولا يتجاوز عمره على مستوى شيوع تداوله في الوسط القوميّ السياسي الكرديّ السوريّ الثلاثة عقود على الأكثر. صاغته الأحزاب الكرديّة عمومًا في ضوء جدلٍ فكريّ وسياسيّ كبير في الثمانينيات، بتعبير ملطّف يربط بين الجغرافي الإقليميّ المتعلق بالأرض، وبين الاجتماعي المتعلّق بالمجتمعات الكرديّة باسم «المناطق الكردية». واعتبر مفهوم «المناطق الكرديّة» بديلاً من مفهوم «الشعب الكرديّ»، لأنّه ينطوي على «التأكيد الصريح على وجود أرض كرديّة في سورية». وقد حاول عبد الباسط سيدا [6]أن يكرّس هذا المعنى الإقليميّ السياسيّ للحق بالأرض بقوله إنّ مصطلح «مناطق كرديّة في سورية» باللغة العربية مطابق للمصطلح الكردي «كردستان سورية»، ويرى سيدا أنّ «الاتجاه العام لدى الفصائل الكرديّة هو اعتماد المصطلح العربي، كونه أقلّ إثارة للنزعات الشوفينية، إلاّ أنّه في ظلّ السعي المستمرّ لفرض التعريب الشموليّ، ومحاولة إنكار الوجود الكرديّ، يبدو من المناسب التشديد على المصطلح الكردي، كونه أكثر وضوحًا وتحديدًا، كما أنّه من الطبيعي جدًا أن يطلق الأكراد اسمًا بلغتهم على أرضهم» [7].
– إن حل «المسألة الكردية» السورية لا يمكن أن يتمّ إلا في إطار حلّ وطنيّ سوريّ محض، خارج اختراعات «كردستان الغربية»، يضع الأكراد السوريين في إطار عضويّتهم في المجتمع السوري وتمأسسه الدوليّ بالجمهورية العربية السورية، والذي هو مجتمع عربيّ متنوّع تنوف نسبة العرب فيه على 91 في المئة من إجمالي سكانه. ولا تتعلّق المسألة بحدود الاسم: «الجمهورية السورية»، أو «الجمهورية العربية السورية»، ذلك أن المعطى الجوهري يتمثّل في أنّ سورية «جمهورية عربية». وإن إثارة الاسم تتمّ لدى بعض المجموعات الكرديّة السورية لغايات ومشاريع قومية غير مندمجة وطنيًا.
– إن «المسألة الكرديّة السورية» هي مسألة وطنيّة سورية للسوريين عمومًا وللسوريين الأكراد خصوصًا، وليست مسألة كردستانية، فهي نتجت من إلجاء سورية لموجات اللاجئين المهاجرين الأكراد. وهي بهذا الشكل قابلة للحلّ الديمقراطي في إطار ما يشتمله هذا الحلّ بالضرورة من حقوق لغويّة وثقافية وتعليميّة، وصوغ المناهج التعليميّة بحيث تشتمل على التعريف بالتنوّع الثقافي واللغوي لأبناء سورية، وتمكين المجتمعات المحلية كافّة من إدارة نفسها وفق الإدارة اللامركزية، أو نظام الإدارة المحلية بعد تحريره من سطوة أصحاب الوصاية السابقين الذين كانوا متسلّطين عليه، في إطار وحدة الجمهورية العربية السورية باعتبارها دولة بسيطة وليست مركّبة من منظور القانون الدستوري.
تشكل الثورة السورية بما تطرحه من حتميّة دخول سورية في مرحلة تحوّل تاريخي جديدة نحو سورية جديدة، فرصةً حقيقيةً لإنتاج حلّ ديمقراطي عادل وواقعيّ للمسألة الكرديّة في سورية باعتبارها مسألة عادلة ومحقّة ضمن هذا الإطار، وللتأكيد على التمسك بوحدة الدولة وهويّتها وطابعها العمومي لكلّ مواطنيها. وهذا ما يتطلّب من قادة الأحزاب الأكراد منخرطين في الثورة أكانوا، أم متحفّظين تجاهها، طرح المسألة الكردية في إطار البنية البسيطة للدولة السورية، التي هي بنية عربيّة يتمتعّ فيها جميع مواطنيها بحقوق المواطنة الاجتماعية والسياسية والثقافية، والتفاعل مع القوى الديمقراطيّة في سورية لبلورة تصورات واقعيّة لبرنامجٍ ديمقراطيّ وطنيّ يضمن مأسَسَة المواطنة، ونظام التعددية الحقيقيّة ويجيب عن الأسئلة المطروحة عن مستقبل سورية ما بعد سقوط نظام الاستبداد. ففي دولة مثل سورية يشكِّل العرب أغلبيّـتها الساحقة، ليس هناك أيّ تعارض بين هوية سوريّة العربيّة القائمة على أساس الاندماج في دورة الثقافة والتاريخ وحقائق الجغرافيا، وبين تمتّع من هم من غير العرب كافّة بحقوق المواطنة الكاملة. إنّ المواطنة الديمقراطيّة المؤسَّسيّة بمعناها العميق الذي يشمل الحقوق الثقافية الجماعية هي الطريق لحلّ ما يدعى بالمسألة الكرديّة السورية في إطار دولة عربيّة سورية واحدة موحَّدة يجد مواطنوها كافّة محلاً كاملاً لهم ولتطوّرهم الفاعل والخلاق.
* باحث ومفكر سوري له أكثر من خمسة عشر كتاباً. عمل خبيراً في منظمات الأمم المتحدة، المدير والمؤلف الرئيس في مشاريع “التعليم والتنمية البشرية” و”مشروع سورية 2025″ و”الهجرة الخارجية الدولية السورية” و”بناء شبكة للجمعيات التنموية غير الحكومية في سورية” و” تقرير حالة سكان سورية 2008″. وهو باحث مقيم في المعهد الفرنسي للشرق الأدنى IFPO
[1] نسبة لمسعود البارزاني، رئيس إقليم كردستان العراق، وعبد الله أوجلان رئيس حزب العمّال الكردي.
[2] نسبة لجلال الطالباني، رئيس جمهوريّة العراق.
[3] تعرض هذه القضايا التي هي جزئية تاريخية، وتكرّر باستمرار باعتبارها وقائع بديهيّة من دون الاستناد إلى مصادر بحثيّة تثبت صحتها حتّى أصبحت أشبه بالحقائق المطلقة التي لا تحتاج إلى إثبات، وهذا غير صحيح علميًّا، ولا في الواقع أيضًا. راجع جمال باروت: كيف نشأت مشكلة” أجانب تركيا” في سورية؟، لوموند ديبلوماتيك النشرة العربية، آب/أغسطس 2009، http://www.mondiploar.com/article26… ونتيجة تكرار هذه القضايا بشكلٍ دائم بلسان الأحزاب الكردية وبعض قوى المعارضة السورية التي تجهل أو تتجاهل الحقائق التاريخية، نجد أن مراكز الأبحاث الغربية تأخذ بهذه الوقائع كأنها مُسلّمات وحقائق بديهية لا تحتاج إلى مرجع يؤكدها. ويمكن ملاحظة ذلك في تقرير مؤسسّة كارنيغي بعنوان «أكراد سورية: بين ماضٍ مضطّربٍ ومستقبلٍ غير مؤكّد»، 16/10/2012.
[4] للإطلاع على وثيقة الاتفاق (اتفاقية هولير)، 11/7/2011، اتبع الموقع الإلكتروني لـ «مدونة الكردي الحر».
[5] «النظام يترك مؤسسات الخدمات والمناطق الريفية تحت سيطرة الـ (PYD) ويستعيد فروع المخابرات،» موقع كرد ووتش (Kurd Watch) ، 5/8/2012).
[6] كاتب سوريّ كرديّ، مؤلّف “المسألة الكردية في سورية: فصول منسية من معاناة مستمرة . أبسالا، السويد: مطبعة نينا، 2003″. شغل لفترة منصب رئيس المجلس الوطنيّ المعارض.
[7] عبد الباسط سيدا، المسألة الكردية في سورية، ص9.
هذا المقال جزء من دراسة له تحت عنوان: “مسألـة أكـراد سورية: الواقع، التاريخ، الأسطرة”، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، كانون الثاني/يناير 2013.
لوموند ديبلوماتيك العربية