نحو حياة افتراضية حارة/ شادية الأتاسي
أعيش بقوة خواء الحياة الافتراضية، بكل عبثيتها، وفجاجتها وسحرها. هي معانٍ متناقضة، تناقض وتيرة الحياة اليوم، الأمر هكذا، ما دمت لن أستطيع أبدا أن أرى رجفة الشوق في مقلة من أحب، ولا متعة الشعور بملامسة حقيقية تؤكد خصوصية المشاعر.
عندما يبدأ المساء هنا، يلبس الليل صوت السكون العميق، إلا من صوت المطر الرتيب “مطر الغربة”، ينهمر حبة حبة على المدينة وعلى شباك غربتي وفي قلبي أنا.
وفي هذه اللحظات، يصبح طقس روحي غائما يميل إلى الغياب، وأشعر بضجيج الحياة ينسل بعيدا عن ضفتي.
لا شيء هناك أكثر متعة في “هكذا لحظات” من نافذة خضراء صغيرة على سطح بارد، أفتحها متأنية وأطل منها على الطرف الآخر، على “هناك”، عالم متخيل مع أشخاص افتراضيين، أفترض أنهم كائنات حميمة، أتشارك معهم الهاجس والذاكرة، عالم مليء بضجيج الحياة الحارة، تتمازج وتتجاذب فيه مفردات الحب والفرح والحرب والفقر والخراب والوجود والعبث والحياة والموت، حيث تتحول عوالم تلك المواضيع الثرية إلى تفاصيل يومية، قد تعطي جرعات من قوة الاستمرار إلى حياة عادية الفرح، هزيلة الأحداث.
أجل، في هذا الزمن الرديء، أقبل على الحياة الافتراضية هذه بشغف، ناسية أو متناسية حلاوة النظر إلى اختلاج الروح في مقلة العيون، ومتعة دفء اللمسة في لقاء حقيقي، وجمال حركة الشفاه حين تبوح ، ودفء الأنفاس في نجوى الحوار، وأتنفس الصعداء حين أرى نوافذ الأصدقاء الفيسبوكيين خضراء لامعة.
هم إذن هنا…
وكلما ازداد عدد النوافذ الخضراء الصغيرة، أفترض أن دفئا من نوع خاص ينساب عبر هذه النوافذ لينسكب في قلبي أنا، فهذا يعني المزيد من زخم الحياة الافتراضية ومن ضجيجها ومن قوتها، في حين ينتابني الآسى حين تكون هذه النوافذ الصغيرة بلا لون موصدة، فهذا يعني مزيدا من عوالم العزلة، المتلازمة ربما مع مفردة الموت والنهاية، والتي تعني أن نوافذ الآخرين تصفق في وجهك وأنك وحيد تماما، فتغلق الصفحات وتعلو لغة الخصام، ويصل الحوار إلى طريق مسدود، ربما أعزي نفسي وقتها أن في الاختلاف غنى، ولكن أي غنى وأي اختلاف أوصلنا إلى مستنقع الجنون هذا؟
أغرق في زحمة الحياة الفيسبوكية، وأعيش تناقض هذا العالم العبثي، أقبله كما هو، غير عابئة بتحليل عشوائية الصورة “السوريالية” التي يرسمها هذا العالم الصغير، لعالم حقيقي يدور خارج إطار هذه الصورة الافتراضية، فأنتقي الياسمين هدية لمن أحب، أرسلها، لتصل الطرف الآخر طازجة بلهفة الاشتياق، أترنم بحنان بأغنية حب قديمة، وأتذوق بشهية أكلة لذيذة، وأراقب بشغف اشتعال الصفحات الفيسبوكية وانهمار الأخبار والمشاعر والقصص والخلافات والتناقضات، واستعد للدخول في حياة ليلية متناقضة عجيبة لا تشبهها أي حياة أخرى.
لطالما تساءلت كيف يمكن لمشهدين صارخين في الاختلاف أن يجتمعا معا أمام الذائقة البصرية الحيادية تمامًا. مثلا مشهد الحقول الغارقة في نشوة الربيع وقد زهت بندى الصباح، وثمة سنونوة هنا تشدو لفرح اللقاء وقُبّرة هناك تغني لوداع المساء، في حين تترى أمامك مشاهد تجعلك تقف عاجزا ومحترقا ومكتويا، ليس بالألم وحده ولكن بالدهشة لبشاعة ما يمكن أن يفعله الإنسان عندما تتشظى روحه ويجوع الوحش بداخله. وجوه تكتوي بلظى النيران،
رجفة النداء لرعب اللحظة الأخيرة من بيت ينهار. احتراق دمعة حرى في عين يتيم في برد المساء. تجعد ابتسامة النزع الأخير في بحر مجنون.
وفي هذه اللحظات لا أدري إن كان هناك ما يمكن له أن يضيء ولو قليلا هذه المساحة المعتمة من داخلك، غير أن تختار، اختر نبض الحياة الحار دائما، اختر كيمياء الحب والالتصاق بالآخر، فلا شيء سواه يمكن أن يقودك إلى عذوبة الشعور أن هناك ما يزال شيء ما يستحق الحياة.
ما حدث حقيقي ودمارنا حقيقي. وحده الفرح هو افتراضي في زمن الغربة.
ضفة ثالثة