صفحات سورية

نحو غربلة سياسية لقوى المعارضة السورية


باسل أبو حمدة

بينما كانت القوى السورية المعارضة للنظام، أفراداً وجماعات، متوجسةً ومتخوفةً من إِعلان مواقفها علانيةً في الأشهر الأولى من عمر الثورة السورية، جاءَت الفترة التي أعقبتها، والمستمرة، حافلة بالمبادرات والمؤتمرات والائتلافات والتكتلات السياسية وشبه السياسية، في مخاض عسير كان ينقصه، ولا يزال، الانفتاح والحوار بين مجموعة الشخصيات والقوى السياسية المكونة لهذا الحراك السياسي، والتي راحت تتبارز في تشكيل كيانات سياسية، أقل ما يقال فيها، أَو عنها، إنها غير ناضجة، أو خلقت ميتة، أو تفتقر لمقومات الوجود السياسي ومسوغاته، وحتى شرعيته، لا بل إِن كثيراً منها، إن لم نقل معظمها، قام على أساس المبادرة الفردية، وربما المصلحة الشخصية الضيقة أَيضاً.

وجد عدد من الشخصيات، المتلفحة بعباءَة البراغماتية، لكي لا تتهم بالانتهازية، في التطور الدراماتيكي للأَحداث في سوريا، ومحيطها والعالم، أَرضاً خصبةً لبذر مطامع باتت تشكل حجر عثرة أَمام التوصل إِلى صيغةٍ واحدةٍ وموحدةٍ للعمل السياسي المشترك، الذي لا يختلف عاقلان على أَنه الرافعة الوحيدة الكفيلة باستمرار هذه الثورة، بما هي عليه من زخمٍ، حتى الوصول إِلى غاياتها النهائية التي لا يشكل إِسقاط النظام فيها سوى حلقة واحدة في سلسلة المهام والواجبات المترتبة على عاتق الثورة مجتمعة، وعلى عاتق كل قوة وشخصيةٍ فيها.

في هذا المشهد الملبد بغيوم النزعات الفردية، والمطامع الشخصيةِ المريضة والضارة، شكلت ضرورات العمل السري، أَحياناً الذريعة المفضلة والسهلة، للتماهي مع حالة التفرد والاقصاء والتقليل من شأن الآخرين، وازدرائهم، حتى لو كان ذلك على حساب الثورة وأَهدافها، وتجاوزاً لتضحيات السوريين المنخرطين في الثورة، بشهدائهم وجرحاهم ومعتقليهم ولاجئيهم والملاحقين منهم، وذلك، بعد أَن تراجعت شعارات الثورة الأساسية، المطالبة بالحرية والكرامة، إِلى الخلف، مفسحة الطريق أَمام ظهور تكتيكات وآليات عمل مجتزأة من سياقها الوطني العام، لتوضع في بوتقة تكتلات ضيقةٍ، لا ترى أَبعد من أَنف القائمين عليها ومصالِحهم الفردية.

خلف هذا الجدار الانتهازي السميك، راحت تتوارى القوى الحقيقية الفاعلة على الأَرض، وصاحبة المصلحة الحقيقية بالتغيير التي تعتبر وقود ثورةٍ كان يصعب، حتى وقت قريب، تصديق إِمكانية اندلاعها بهذا العنفوان، في ظل القبضة الحديدة للنظام الفاشي الحاكم في سوريا، بينما بدأَت تظهر كيانات سياسية هزيلة، هنا وهناك، كان من شأنها تمييع الخارطة السياسية للقوى الثورية في سوريا، وخلط حابل ضرورات العملية الثورية بنابل المصالح الضيقة، بحيث بات المواطن السوري، أَو المراقب للوضع السوري، في حاجةٍ إلى عدسة مكبرة، حتى يتبين حقيقة ما يراه من توالد مسعور لتلك الكيانات التي بات ملحاً رفع شعار غربلتها وتقنينها في مجرى العمل الوطـــــني الأصيل، من خلال فتح الباب على مصراعيه للحوار، في جو لا وجود للغة الاقصاء فيه، وكان من الممكن أَنْ تكون الخطوة الأولى، أَو إِحداها، في هذا الاتجاه، هي الإِسراع إِلى عقد مؤتمر وطني سوري شامل، يضم الجميع من دون استثناء، أَو استعلاء، ويرمي إِلى وضع استراتيجيةٍ ثوريةٍ، ترقى بالعمل الوطني إِلى مستوى تطلعات الناس وآمالهم المعقودة على هزيمة النظام، وبناء سوريا الجديدة.

راحت هذه الدعوة إلى عقد مؤتمر من هذا النوع تتراجع، على إيقاع الإعلانات المتسارعة والمتعاقبة، في القاهرة وغيرها من مدن وعواصم العالم، عن ظهور مزيد من تلك التشكيلات الفطرية العرجاء، التي لا تعيش إلا في الغرف المعتمة في محاكاة لأَقبيةِ أَجهزة المخابرات السورية التي تدعي تلك التشكيلات أَنها تسعى لإسقاط النظام الذي تحميه، بينما تتلون أطيافها الفكرية والسياسية وفقاً لمعطيات اللحظة الراهنة، فمن الممكن أَنْ تتبدّل الأرضية الفكرية لهذه التشكيلة، أَو تلك، بين عشية وضحاها، طالما أَنَّ ذلك يؤمن لها، كما يعتقد رموزُها، وصولاً سريعاً وسلساً، ليس إِلى قلب الخارطة السياسية لأطراف القوى المعرضة للنظام فحسب، وإِنما في الخارطة السياسية لسوريا ما بعد رحيل النظام الفاشي فيها.

الطامة الكبرى في هذا المشهد غير السياسي تكمن في الاختراقات المحتملة الكبرى للحراك الثوري السوري، وهي إختراقات بحاجةٍ إِلى فتح ملف خاص بها. لكن، على ضوء معطيات القوة المالية واللوجستية والخبرة الطويلة، يشي الواقع بأَنَّ أَجهزة المخابرات السورية والعربية والعالمية ليست في منأى عن هذا المشهد، وقد تكون نجحت، فعلاً، في إِحداث ذلك الاختراق المزدوج الأَمني السياسي، بهدف حرف ذلك الحراك عن مسارِه الطبيعي، خصوصاً وأن قواه وشخصياته لا تزال رهينةَ الداعمين والمانحين على المستويات، المحلي والاقليمي والدولي. وبالتالي، فإن حتى الدعوة إلى حوار أو مؤتمر وطنيين تبقى قاصرةً، إن لم تسبقها عملية تطهير حقيقيةٍ لجسم الثورة من الأدران الانتهازية والأورام السرطانية والكتل المشبوهة، حتى لا يتسنّى لها أن تتربع على عرش الثورة، تمهيداً لتربعها على رأس السلطة في سوريا الجديدة.

كل ذلك يدعو إِلى فتح ملف غربلة تلك القوى والأفراد، ليس في الفنادق ذات النجوم الخمس خارج سوريا، وإِنما على أَرضها، ومن خلال صيرورة المواجهة الحقيقية مع آلة النظام القمعية.

‘ كاتب سوري

القدس العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى