صفحات الرأي

نحو قراءة فلسفية للانتفاضات العربية

 

الاكتواء بنار الأصولية للتحرر منها

كرم الحلو

الاحداث الكونية الضخمة نادرة في التاريخ، تنتقل بالناس من وضع سابق الى وضع لاحق، تفصل ما كان عما سيكون، تقسم التاريخ الى ما قبلها وما بعدها. فهل ينطبق ذلك على ظاهرة الربيع العربي؟

المفكر هاشم صالح الذي دأب في كتاب «الانتفاضات العربية على ضوء فلسفة التاريخ» على قراءة ظاهرة الربيع العربي من منظور فلسفي، خلافاً للقراءات السياسية السائدة، يتردد في الاجابة بالايجاب على هذا السؤال، فما حققه الربيع العربي حتى الآن هو سيطرة التيار الاخواني السلفي على السلطة في بعض البلدان العربية، ما لا يمكن اعتباره من الاحداث التاريخية الفاصلة. والسبب اننا لم نشعر بحصول قطيعة كبرى مع الماضي، بل شهدنا العكس تماماً، اي العودة الى الماضي. لا ريب في ان الربيع العربي حرك المستنقع الآسن وكشف عن عورات الانظمة العربية المقطوعة عن شعوبها، المتكلسة فكرياً والمتحنطة ايديولوجياً وشعاراتياً. ومن هذه الزاوية فقط يمكن القول ان الوضع الحالي يمثل نقطة تقدمية في المسار العام لحركة التاريخ، مع ان الثمن سيكون باهظاً.

باستلهام اطروحات الفيلسوف الالماني الكبير هيغل (اصل كل ما يحصل من اشياء عظيمة في مجال الفلسفة منذ مئة سنة – على حد تعبير ميرلو بونتي)، رأى المؤلف ان فلسفة التاريخ تعلمنا ان استخدام السلبي للتوصل الى الايجابي شيء ضروري جداً، وما يحصل من كوارث وفواجع اليوم في سوريا او العراق او اليمن او كل مكان من ارض العرب، ربما كان ضرورياً لايجاد تشخيصات فلسفية عميقة ومضيئة للواقع العربي. فلولا الشر لما تقدم التاريخ الى الامام، والتاريخ عقلاني، وهو يمشي في اتجاه مزيد من العقلانية والنظام والحرية، على الرغم من انه يبدو عبثياً ولا معقولاً ومليئاً بالحروب والظلم والتناقضات. من هذا المنظور لن تذهب عذابات الشعوب العربية وتضحياتها سدى، اذ باكتوائها بنار الاصولية تتحرر منها لاحقاً. هذا هو ديالكتيك التاريخ او قانونه الاعظم الذي اكتشفه هيغل، والذي يرى ان الحروب الاهلية والصراعات الطائفية وتطاحنات البشر العنيفة ليست الا «المواد الخام» التي يستخدمها العقل لكي يحقق مبتغاه، اي حرية البشر وسعادتهم، فالعقل يتوصل الى مبتغاه عن طريق اللا عقل، وهنا بالذات يكمن «مكر العقل». وعلى هذا لا بد من دفع الثمن باهظاً للوصول الى الحرية، ولا داعي للخوف من الآلام والفواجع التي تعاني منها الشعوب العربية. فحركة التاريخ العربي تتقدم الى الامام في الوقت الذي تبدو وكأنها تتراجع الى الوراء، وهنا يكمن «مكر التاريخ». لنترك الاصولية تحكم وتسيطر، ليتولد رد فعل ضدها، وهكذا تولّد الاطروحة الاصولية الاطروحة المضادة، اي الحداثة الليبرالية.

على هذا الاساس يعرب المؤلف عن تفاؤله بالمستقبل رغم كل شيء، لأن الثورة التنويرية لا بد ان تحصل بعد ان تشبع الاصولية من ذاتها وتستنفد كل امكاناتها وتفقد مصداقيتها. فالمعركة، في رأيه، لن تُحسم سياسياً ان لم تُربح فكرياً، اذ ان المشكلة هي مع عقلية القرون الوسطى المسيطرة على جماهيرنا بنسبة ثمانين في المئة، ولن تحصل الثورة العربية التنويرية قبل ان ينتصر التأويل الجديد للاسلام على التأويل الطائفي القديم. وليس اكثر دلالة على ذلك من اندلاع المعركة على مصراعيها بين الاصوليين الظلاميين والمثقفين المستنيرين في بلدان الانتفاضات، من محاكمة عادل امام، وسيطرة الاصوليين على الشارع في مصر، وتخوينهم النساء والصحافيين والجامعيين وحرية الفكر عموماً، الى اعادة احياء عقلية محاكم التفتيش من جديد، وتوجيه الاتهام بالزندقة الى مجموعة من رموز التنوير العربي مثل نجيب محفوظ وعادل امام، الى تهديد نخبة من المثقفين التونسيين بالقتل ان لم يتوبوا، الى الافتئات على المسيحيين واعادة الاحتكام الى الشريعة كمصدر رئيس للتشريع في مصر، خلافاً لدستور عام 1923 الذي نص على المساواة المواطنية الكاملة.

بناء على هذه المؤشرات السلبية رأى صالح ان الثورة الفكرية لم تحصل بعد في عالم الاسلام، وهي وحدها التي ستدخل العرب في التاريخ بعد ان خرجوا منه لعدة قرون، فليس كافياً الاحتكام الى ديموقراطية منزوعة من مضمونها الليبرالي المستنير، لأن الاساسي هو التوصل الى النظام الليبرالي الحديث الذي يشكل الخلفية الضرورية للديموقراطية الحقة. الا ان المؤلف يبدي تشاؤمه بمثل هذه الثورة التنويرية في المدى القريب في العالم العربي، لأن العرب ليسوا سائرين نحو الاستنارة، بل انهم سائرون في الاتجاه المعاكس حالياً. لكن الربيع العربي وان لم يتمخض عما نرجوه، دشن ضرورة تاريخية لن تتوقف تفاعلاتها الخلاقة قبل ان تحدث تغييراً جذرياً في المجتمعات العربية.

في رؤية شاملة الى الكتاب نرى انه قدم قراءة فلسفية جديدة للربيع العربي تتجاوز القراءات السياسية وتُسقط على السواء الرؤى المفرطة في التشاؤم او في التفاؤل ازاء الانتفاضات العربية، لتؤسس على الضد من ذلك للتعامل موضوعياً مع هذه الانتفاضات من منظور عقلاني تاريخي يحررها من الاحكام المسبقة والمتسرعة. الا اننا لا نشاطر المؤلف قناعته بثورة فكرية تؤسس لاخرى سياسية، فثمة في رأينا تفاعل جدلي بين الفكر والسياسة في حراك التاريخ الذي يبقى واحداً في كل الحالات.

المستقبل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى