نحو قراءة مسؤولة/ علي العبدالله
في قراءة المعارضة السورية لموقف الإدارة الأميركية من الملف السوري ثقب أسود مخيف فحواه انها(الإدارة) تنازلت (لزّمت، ضمّنت) عن الملف السوري لروسيا، وان كل ما تقوم به روسيا يتم بموافقة أميركية، لعبت دول عربية وغير عربية، وصحافيون يكتبون لخدمة هذه الدول، في تكريس هذه القراءة وتضخيم هذا الوهم على خلفية استيائها من الموقف الأميركي في ملفات تخصها او تتعلق بمصالحها. قراءة أدت الى تحرك سياسي وميداني محكوم بذهنية الضحية المغلوب على أمرها والتي لا تمتلك فرصة لمواجهة هذا القدر العاتي.
واقع الحال ان الخلاف الأميركي الروسي ازاء الملف السوري من الضخامة والوضوح بحيث لا يمكن ان تخطئه عين مراقب، وان المشكلة في عين المعارضة الكليلة التي لم تر رأس جبل الجليد وتحدّد حجم الجبل وخفاياه لانها أسيرة وهم آخر أكبر وأخطر: نظرتها الى ذاتها باعتبارها مركز العالم، وقضيتها معيار للموقف السياسي والاخلاقي الدولي. نظرة نرجسية لا يشاركها فيها احد في عالم السياسة والواقع، ناهيك عن خضوعها لرغبات الدول الداعمة.
تستدعي السياسة الحصيفة لدى تقويم موقف الأطراف الأخرى، المحلية والإقليمية والدولية، من قضيتنا وضعها في اطار الملفات الإقليمية والدولية وتقدير مصالح الأطراف فيها وفي بقية الملفات والقضايا ومدى الأهمية التي تُعطى لها والأولوية التي تحظى بها، وبالتالي تقدير موقفها، طبيعته واحتمالات ثباته او تغيره، وتوقع خطواتها القريبة والبعيدة. وهذا يتطلب أخذ موقع هذه الأطراف وتقمّص شخوص مسؤوليها واستنتاج الموقف المحتمل والمتوقع على ان تعقب هذه الخطوة الرئيسة مراقبة سلوك هذه الأطراف على أرض الواقع للتأكد من مدى واقعية الاستنتاجات مع التدقيق في حقيقة التصريحات وربطها بالخلفيات والرسائل التي تنطوي عليها، لان للتصريحات الدبلوماسية منطقها ووظائفها المباشرة وغير المباشرة: المساومة، الربط، التعمية، التموية، الضغط، التنفيس… الخ، ولعل أهم نقطة في عملية القراءة والتقدير الاحاطة بالظرف والمناخ السياسي السائد والالمام بتفاصيل الموقف في مستوياته المحلية والإقليمية والدولية، فالإدارة الأميركية تقف الآن وسط ساحة مليئة بالملفات والقضايا من الوضع الامني والاقتصادي الوطني الى المزاج الشعبي السائد في ضوء تبعات حروب الإدارة السابقة وماترتب عليها من خسائر مادية وبشرية وانعكاس ذلك على الحياة اليومية والمعيشية للمواطنين، الى مناخ دولي ضاغط يعج بالملفات والقضايا المفتوحة والمعلقة من وجود مزاج لدى دول صاعدة لتحدي التفرد الأميركي في قيادة العالم، الى تنمر الصين على دول الجوار في شرق آسيا ووجود دول حليفة لواشنطن تنتظر منها الحماية، ناهيك عن سياسات بوتين العدوانية مع دول الجوار وضغطه من اجل اعتراف أميركي بندية روسيا، الى مواجهة محاولات التحالف الروسي الصيني والعمل على افشالها، مرورا بتوفير شروط حماية اسرائيل، وترويض ايران، وتعديل السلوك الداخلي لدول الخليج وضمان تدفق النفط وسلامة نقله ومعقولية اسعاره، وثورات الربيع العربي وما طرحته من احتمالات وما تطلبه من خطوات لضبطها وتجيير نتائجها في صالح استمرارية علاقات التبعية والخضوع… الخ. وكل ملف يستدعي حسابات دقيقة ومركبة لمعرفة مآله وانعكاسه على بقية الملفات سلبا او ايجابا.
وهذه الحسابات الدقيقة والمركبة التي تجريها الدول لتحديد موقفها من قضية ما تجري تحت سقف القوانين الناظمة للعلاقات الدولية(توازن القوى، توازن المصالح) وذلك بحسب موقع الأطراف الأخرى: اعداء، خصوم.. الخ.
وسط هذه الشبكة المعقدة من الأطراف والقضايا والملفات والمناخ القلق والمتوتر ينزل الملف السوري ويتم التعاطي معه بحسابات بميزان الذهب، كما يقال، لمعرفة مدى أهميته لمصالح هذه الأطرف وانعكاس حله على هذه المصالح ومقدار استفادة الأعداء والخصوم من هذا الحل، وفرصة جنى مكاسب وتجنب خسائر وامكانية المساومة والربط بينه وبين ملفات أخرى لها فيها مصالح اكبر او أخطر. وهذا مع اعتبار حقيقة أميركا، الدولة العظمى الوحيدة في العالم، وحجم مصالحها وانتشارها وتداخلاتها وتشابكاتها مع مصالح دول كثيرة في كل ارجاء المعمورة، يكشف مدى الصعوبة والخطورة التي تنطوي عليها عملية تقويم متسرعة او رغائبية.
كانت واشنطن، ومازالت، تنطلق في حساباتها من تقديرها لقدراتها (العسكرية والاقتصادية والعلمية) الهائلة وتتصرف باطمئنان لان هذه القدرات تمنحها فرصا كثيرة وكبيرة على التحكم بالصياغات النهائية للملفات وحلولها أو ابقائها دون حل أو خلط الاوراق واعادة المباحثات الى المربع الأول عبر قدرتها على تغيير الموازين مرة أخرى، وهذا ما أكده الرئيس الأميركي في مقابلته المطولة مع الصحفي جيفري غولدبرغ في مجلة ذا اتلانتك نشرت تحت عنوان “عقيدة اوباما”.
لو كان ثمة تنازل او تلزيم لروسيا، كما يتوهمون، هل كان كيري بحاجة الى كل الاجتماعات التي اجراها مع نظيره الروسي لافروف، او هل كان بحاجة الى كل تلك الزيارات الى موسكو واجتماعه لساعات مع بوتين؟. ثم ماذا يعني التصعيد العسكري الروسي والقصف الوحشي لمعظم الاراض السورية واستهداف فصائل رعتها واشنطن بالتدريب والتسليح انتقاما لحالة العجز في اقناع واشنطن بالقبول برؤية موسكو للحل في سوريا، ناهيك عن ان التنازل يعني منح انتصار مجاني لخصم، وأي خصم، خصم له تطلعات كبيرة وخطيرة، وهو غير وارد في ادارة الصراعات الدولية، وان كل ما يتم ليس اكثر من ادارة صراع باحتراف، أطلق عليه نائب وزير الخارجية الروسي ريابكوف وصف “خداع سياسي”، في ضوء فشل محاولات روسيا ربطه بملفات أخرى عالقة بينها وبين واشنطن والحلف الأطلسي والاتحاد الأوروبي٬ ومنها الأزمة الأوكرانية٬ وازدياد الوجود العسكري الأطلسي على الحدود معها٬ وجهود التسلح التي يقوم بها الحلف التي تراها موجهة ضدها، فالإدارة لا تبدو متعجّلة للحل، فهي، بحسب وسائل إعلام روسية، تُماطل بهدف نقل الملف السوري برمّته إلى الإدارة الأميركية القادمة، لادراكها أن موسكو تتعجّل الحل السياسي وفق رؤيتها المعروفة، قبل أن تنتهي فترة حكمها، لانها تتوقع ان تكون الإدارة القادمة اكثر صرامة وصدامية.
تشير الاسطر السابقة الى ضرورة اعادة تقويم الموقف الأميركي ووضع تصور للتعاطي معه، تصور منطقي وعملي في آن، على امل تحقيق هدف رئيس رفعته الثورة السورية: الحرية والكرامة
المدن