نخب المثقفين العرب والموقف من الثورة السورية
دمشق ـ ‘القدس العربي’ ـ من أنور بدر: منذ اندلاع شرارة الثورة السورية الأولى في آذار/ مارس من العام المنصرم، والمثقفون العرب بأغلبيتهم سادرون في وهم الأيديولوجيات التي جاء الربيع العربي ليشكل قطعاً معها ومع الأنظمة الشمولية التي لم تنتج غير الاستبداد والفساد بآنٍ معا.
مثقفون قوميون ويساريون خانوا رسالتهم التاريخية ومصالح شعوبهم لصالح مقولات ومفاهيم أيديولوجية فقيرة جداً، وفي هذا الصدد أتذكر بحزن شديد المقالات المبكرة لرئيس رابطة الكتاب الأردنيين موفق محادين والتي شكلت نوعاً من النوستالجيا لردح من الزمن الذي عاشه في دمشق أو في سوق الحميدية على سبيل التحديد، متجاهلاً الوجه الآخر لهذه النوستالجيا بما تعنيه من خيانة لدلالات ذلك الزمن الثوري أيضاً ووجوه الرفاق الذين عاش بينهم، والذين أصبحوا مطاردين أو مشاريع شهداء.
يقين الثقافة الأيديولوجية يشكل نقطة المحرق فيها الموقف من الأيديولوجيا الإسلاموية، دون أي قدرة على التمييز بين الإسلام الشعبي والإسلام السياسي، فليس ذنب الثورة السورية أنها وجدت نفسها أسيرة انشقاق عمودي في المجتمع، حاول النظام استغلاله بكل قوة والّلعب على دلالاته في فسيفساء التنوع الغني لمجتمعنا، حتى اكتشفنا ذلك التطابق بين اليقين الأيديولوجي وبين ما بات يُعرف بموقف الأقليات الخائفة، موقف يحركه الخوف من الآتي في أتون الثورة، مقابل الأمان المستبد الذي يتغنى به الخائفون، متناسين كل المقولات السابقة عن ديكتاتورية الاستبداد وفساد السلطة التي تأسنت في ركودها عقودا من الزمن. ويا لهول الفاجعة حين يتطابق موقف رموز الثقافة من اليسار الثوري والقوميين العرب مع موقف الموالاة البائسة للأنظمة التي كانوا يدّعون النضال لتغييرها، وبعضهم يتناسون مقولاتهم السابقة عن اللحظة الثورية لأنهم ليسوا القابضين على مسارها، دون أية إمكانية للتفكير بالانخراط في تلك العملية والتأثير في اتجاهاتها، فهؤلاء الخائفون ستلفظهم حركة التاريخ خارج دائرة الفعل كما أرادوا هم لأنفسهم.
المثقفون العرب الذين تفيئوا ظلال الغوطة معارضين وثوريين ردحاً من الزمن، عادوا إلى طاعة السلطان صاغرين في زمن الثورة بفعل خوفهم المتأصل فيهم، ولن نقول مع البعض بفعل ارتباطات مسبقة حتى لو وجدت، فنظرية المؤامرة لا تفسر حركة التاريخ، فيما تتيح لهم ثقافة الأيديولوجيا اكتشاف المزيد من التبريرات لخذلانهم ثورة الشعب السوري، ذلك الماركسي الذي خذلته تجربة موسكو الستالينية لكنه بقي أمينا لأدواتها السياسية وليس المعرفية، أدوات تبرر الانفصال عن الجماهير والتنظير لها ولاحتياجاتها من داخل السلطة الثورية، ومعيار ثورية السلطة هو الموقف من الأيديولوجيا الدينية و قطيعتها مع الإسلام السياسي، وهم يدركون أنها كسلطة قد انحطت إلى درك من الإنتماء الطائفي أو الأقلوي أضيق من رحابة الإسلام بكثير.
وذلك المثقف القومي الذي عاش أوهام البطولة الأيديولوجية التي ستفضي به إلى الوحدة العربية وتحرير فلسطين، دون أن يدرك أن تلك الأنظمة التي تفيأ شعاراتها القومية كانت المعيق الأكبر لأحلامه الوحدوية والتحريرية، فآمن بصواريخ صدام حسين التي استهدفت إسرائيل رغم أننا دفعنا لاحقا الكثير كثمن لانفجاراتها التي لم تؤذ عدواً ولم تحرر أرضاً، وما زال يبحث عمن يبيعه وهم الوحدة والتحرير شعارات شكلت ملاذ أحلامه الوردية طيلة عمره الثوري، فالعقل العربي، كما قال المفكر المغربي الراحل محمد عابد الجابري، هو عقل بلاغي/ بياني، تنبع الحقيقة فيه من البيان والفصاحة، دون أن يعرف طريقه إلى العرفان أو البرهان.
مثقفو التنظيمات الفلسطينية الذين افترشوا تراب دمشق وأمنوا في ظلها شرّ القتال والتحرير، مازالت دمشق بالنسبة لهم قلعة الصمود والتصدي، تغويهم أوهام تحرير فلسطين الحاضرة في مساحة كبيرة من الشعارات والأيديولوجيا مقابل غياب الفكر السياسي وغياب الفعل التحريري الثوري، غواية المكاتب التي تطل على قاسيون بعدما شردتهم العواصم الأخرى، غواية الحلم لمن يعجز عن الفعل، وفي أحيان كثيرة تمتد مروحة الغواية أوسع من حدود مثقفي التنظيمات الفلسطينية لتشمل ثقافة المقاومة والتصدي بتعبيراتها اللبنانية والعربية عموماً، والتي ربطت بين شعاراتها وسياسة البعث السوري، رابط لا يجد سنداً له في التاريخ السياسي والعسكري للقضية الفلسطينية، لكنها ثقافة يتحرك مؤشر بوصلتها على النقيض من الموقف الأمريكي باعتباره رمز الشيطان الأكبر.
عداؤنا للشيطان الأكبر/ الإمبريالية الأمريكية حكمنا منذ عقود، وفي التاريخ المعاصر كثير من هذه الأمثلة التي أدت إلى كوارث لاحقا، أذكر في مطلع السبعينات كيف أيّدت النخب السياسية العربية بأغلبيتها انقلاب الأخ معمر القذافي في ليبيا، انطلاقا من تلك البوصلة التي حددت نظام السنوسي باعتباره عميلاً للإمبريالية الأمريكية، وبعدها بقليل لم تتردد تلك النخب في تأييد ثورة الإمام الخميني ضد نظام الشاه في طهران، كل النخب القومية والدينية والماركسية العربية التقت لأول مرة وتقاطعت مواقفها وسياساتها في تأييد ثورة ونظام ‘الملالي’ اللاحق الذي يقوم على ولاية الفقيه، ولا يجمع بين تلك النخب السابقة إلا معاداتها للسياسة الأمريكية.
إشكالية الموقف من الثورة السورية بالنسبة لهؤلاء المثقفين وغيرهم تبدو أكثر تعقيداً مما سبق، ويكاد يجمع بينها نظرية المؤامرة التي تتعرض لها دولة الممانعة والتصدي، فأعلنوا انحيازهم لسلطة الدولة متخلين عن رسالتهم الثقافية التي تنطلق من انتمائهم للمجتمع وقواه الحية وفاعليتهم العضوية في تلك المجتمعات بالمعنى الغرامشي، ودورهم الريادي في التغيير، أعلنوا انحيازهم إلى تلك الأنظمة التي لفظتهم دهرا في هوامش الفعل الثقافي، وألحقتهم قسرا بطوابير مداحيها، لأنّ ما تتعرض له دولة الممانعة والتصدي مؤامرة كونية، وإلا كيف نفسر أنّ كل الأحزاب الشيوعية في العالم تقف مع النظام السوري ضد ثورة الشعب كما عبّر أحد بيانات الأحزاب الشيوعية الموقعة من قبل 78 حزبا شيوعياً، وكيف نفسر أنّ القوى القومية التي اجتمعت مؤخراً في تونس ضمن إطار ‘المؤتمر القومي العربي’ أغلبها كانت مؤيدة للنظام السوري، وبشكل خاص تلك القوى القادمة من دول الجوار: لبنان الأردن والعراق، ومن جاء منهم من دول المغرب العربي اكتفى بمعارضة هيئة التنسيق الخجولة على طريقة المنصف المرزوقي رزقنا الله بركاته، والأدهى من ذلك، أو ما يشكل إحدى معضلات الثورة السورية أنّ كل مؤيديها عربياً من الأنظمة المتهمة بالرجعية، وعالميا من الأنظمة الليبرالية وأمريكا باعتبارها الشر الأكبر!.
بهذا المعنى يمكن أن نقول أنّ ثورة الشعب السوري تقف الآن معزولة عن حاضنها الطبيعي القومي واليساري الثوري، بعكس ما شهدناه في ثورتي تونس ومصر، وبهذا المعنى هي ثورة يتيمة انفض عنها أغلب المثقفين العرب تحت ذرائع شتى، فتحولوا من ثوريين ودعاة تغيير إلى مدافعين عن الثبات والاستقرار، ومن ديمقراطيين علمانيين إلى كتبة ومبررين على أبواب الديكتاتورية التي ترعى خذلانهم للشعب وثورته.
وأعتذر عن تعداد أسماء المثقفين الذين أعنيهم في هذا الصدد ليس لكثرتهم فقط، بل لأنهم يعلنون عن أنفسهم باستمرار وفي كل مناسبة، واكتفيت بذكر رئيس رابطة الكتاب الأردنيين موفق محادين تقديراً واحتراماً لموقف الرابطة التي دعت لاعتصام في مقرها مساء الخميس 14/ 6 لتقول انّ: موقف رئيس رابطة الكتاب الأردنيين الداعم لقتل الشعب السوري لا يمثل المثقفين في الأردن.
القدس العربي