نداءات الإقصاء فــي ســــوريــا: “أوعى الزيـــت!!”
عزيز تبسي *
حينها، لم يكن في الأمر شيئ مريب. إنهم يريدون طريقاً مفتوحاً أمام عرباتهم لإيصال البضائع التي يُحمِّلّهم إياها الصناعيون والحرفيون والتجار إلى زبائنهم المنتظِرين في خانات المدينة القديمة والأسواق التي حولها.
كانت تخرج نداءاتهم الهادرة من خلف عرباتهم الخشبية المسطحة، المدفوعة بقوة أذرع عارية لتعْبر طرقات الأسواق ومنعطفاتها، أو من علياء حيوانات الجر الصبورة، حيث يجلسون بمهارةِ لاعبي الخفة، فوق أكداس الأقمشة أو الأكياس المحزومة.
«أوعى الزيت»، «أوعى السمنة»… لم تكن تلك النداءات تلوي على شيء سوى التحذير من خطر حقيقي/وهمي: حذار اتساخ ثيابك بالزيت أو السمنة!! نمط من طلب السلامة للسابلة، لأنه لا العربة ولا حيوانات الجر ستتأذى من الاصطدام أو الاحتكاك المتوقع حدوثه في تلك الأزقة الضيقة.
لم يكن في حمولات العتَّالين زيت أو سمنة، فأسواق المدينة بعمومها ليست لبيع الأطعمة والمواد الغذائية. لكن النداء بقي مستخدماً، قوياً ومشبوباً، بعد أن صار له نسقه التحذيري الخاص: تنح جانباً كي نمر وكي لا يصيبك الأذى من حمولتنا، وأكمل طريقك بأمان بعدها.
لم يعلم العتالون أن المستقبل سيحول نداءاتهم المخنوقة بثقل البضائع والطقس المتقلب إلى عقيدة فكرية هدفها التهديد والترويع من خطر وهمي قابل للتجدد إلى ما لا نهاية، ويكتسي لوناً في كل مرحلة من تاريخ البلاد، بعد انسحاب قوات الانتداب تحت وقع نتائج الحرب العالمية الثانية، وترك إدارة شؤونها لوكلائها من قادة الجند وأعوانهم من المدنيين المتبرمين من العسكر، والعاجزين عن الحكم دون إسنادهم كذلك: «أوعى الصهيونية والرجعية، الانفصاليين، الإمبريالية»… حذار من هؤلاء وتجنب أحابيلهم ولا تصغي لما قد يصلك أو تسمعه منهم، ودع الطريق لنا، لنواجه هذه القوى الشريرة ونقضي عليها. لكون الناس، وفق أعراف الأنظمة التسلطية ضعافا غير محصنين لمواجهة هذه المخاطر، ويملكون القابلية الفطرية للتغرير بهم وتفريغ باذنجان عقولهم من قناعاته، وحشوه برز أو برغل التآمر على الوطن. وساعة يكتشف الناس كذبة مستخدميها الجدد، وهو اكتشاف محاصَر على الدوام بقوة تشكيك فاعلة ومؤثرة تمارسها بحذاقة الأيديولوجية الرسمية وأدواتها، إذاً لا بد من ضرورة رشقهم بالزيت أو السمنة من حين لآخر لإشعارهم أن الأمر جدي. ويمكن أن يتجاوز الامر ذلك إلى التضحية ببعضهم، في محاولة لإيجاد مخرج ميلودرامي آمن لحكاية الراعي الكذاب التي لن تتوقف.
ليس صدفة أن تعتقل دورية الشرطة بائعة البندورة المتجولة ـ في مسرحية «الشخص» للأخوين رحباني ـ لأنها لم تتنبّه لأمر إخلاء الساحة أثناء وصول الموكب الرسمي للشخص وحاشيته، وهو إيذان مبكر بأن هذا المكان لا يتسع لاثنين، فإما السلطة وإما العامة. لكن ما غاب، انه سيأتي جيل جديد من باعة البندورة بعد عقود عدة، لن يقبل بهذا الإخلاء التعسفي، ومستعد لحرق نفسه في الساحات العامة… يفتتح اللهب محمد البوعزيزي وتستمر شعلته، لتشعل وتضيء ظلمة عقود من القهر والاضطهاد.
فضلت السلطات من بواكيرها الجانب التزييني للشعب والعمل على النطق باسمه في آن، كأنه شر لا بد منه. والعمل لحمله على نسيان تلك الحقيقة السوداء: انها أتت إلى السلطة بانقلاب عسكري تافه وصغير ومشبوه. شعب يمكن إحضاره على وجه السرعة عند الطلب بأسرع من إحضار الوجبات الجاهزة الساخنة لبيوت الأعيان، أولاً بإقرار ذاك الحضور كواجب وطني عند الموظفين الحكوميين على سبيل المثال، ليشارك في مسيرة دعم وتأييد، ويغادر بعدها إلى بيته مُخلياً المكان. وليس صدفة كذلك أن تجري معظم محاولات الاغتيال أو الاحتجاجات على ندرتها، في تلك المناسبات التي تتوخى العمومية والوطنية، ربما لكونها الفرصة الوحيدة للتقابل من مسافة كافية للرؤية، بين الشعب المكشوف والسلطة المحجبة. وهي مناسبة ليتعرف الشعب المتلاصق في المساحة الضيقة على نفسه كذلك. بعدها الكل سيلتزم مكانه: الشعب بيته، والسلطة حصونها وقلاعها. وثانياً تهمة الخيانة التي تنتظر من لا يحضر ويشارك بهذه المناسبة الوطنية.
خروج استخدام «أوعى الزيت» إلى المجال العمومي، الشوارع، الأسواق، الساحات، أفقده معناه. فلم يعد ضرورياً حصره بالمكان الضيق الذي لا يتسع لجميع المتواجدين فيه. وجرت معه استعارة أدوات إنتاج الحائكين للإفاضة في الحديث عن حياكة المؤامرة والتحذير بعدها بـ«أوعى المؤامرة». قابلية المؤامرة للتحول، بعد حياكتها، إلى بنطلونات أو سراويل داخلية أو جوارب، وتلبيسها للعامة بعد تعريتهم.
لكن، هذا كله كان في مرحلة المزاج الرائق للسلطات، حينما كان للكلام بعض المعنى وسحر القول، آخذاً الناس إلى الهاوية بآمال تُحققها اللغة المنبعثة من المذياع، قبل مرحلة: انْقلع ولاك!! وما بدي شوفك بخلقتي من اليوم ورايح!! وضرورات منع التجول الليلي، الذي يعني إخراج الناس قانونياً من المجال العمومي ودفعهم إلى الحيز الخاص، ليبقى البيت المحمي جيداً بسلسلة من الأقفال هو الملاذ الآمن، ومبادرة السلطة للإطلالة الفقيرة من جهاز التلفاز على المحاصَرين ببيوتهم، فرصة لها كذلك لادخار الجهد والإمكانيات، بدل الزج بآلاف من رجال الشرطة والمخبرين السريين في الشوارع لحماية نومها ومسراتها الليلية. «يجب أن تناموا حين تنام السلطة» وتسترخوا قبل ذلك في بيوتكم. من هنا يمكن تفسير تعبير عقابي يتوخى القانونية: «إقلاق راحة السلطات العامة».
بلا لف أو دوران، المعنى من كل ذلك الفائض اللغوي هو الطرد أو مغادرة المكان بالحسنى، وتركه للسلطة وأعوانها يشغلونه وحدهم. لكنه لن يُترك فارغاً تماماً. ينتشر أعوانها داخل الأكشاك وأمام البسطات وبهيئة الباعة المتجولين وباعة أوراق الحظ، بالتوافق مع توزيع الكاميرات السرية الصغيرة وتعليقها باعتباطية على أغصان الأشجار وزوايا مواقف حافلات النقل الداخلي، واليافطات المشحونة بالموعظة الحسنة والتهديد المبطن.
كل شيء في المجال العمومي يعلن انه لن يُترَك شاغراً للناس، ليست صدفة أن يجري تشبيه تلك الممارسات التي تجاوزت حدود الفرائض الدينية بالأنظمة التي أنتجتها الطغم العسكرية، بالتوافق مع الوظائف السياسية الأميركية على وجه الخصوص، والتي أبدع لها اليسار الجديد في أميركا اللاتينية اسماً على قياس وظائفها: «الاستعمار الوطني». وهي تميل الى إنتاج خلطة أيديولوجية تهرول لتتقدم مسيرتها الحربية كحرس الشرف وفرقته الموسيقية بطبولها الهادرة ومزاميرها الصافرة التي لا يُسمع مع صخبها الهادر أي نأمة من أوجاع الأمة الممددة على فراش مرضها الأبدي. أيديولوجيا افتراضية نافلة ومضحكة في الكثير من عناصرها، ليس لها قيمة بذاتها، قيمتها تتأتى من قدرتها على سحق خصومها وإهدار دمهم وتسفيه أقوالهم واتهامهم، لتهيئتهم للسجن أو النفي أو القتل… كأنها مزيج لمسرحية من الهزليات السوداء.
السفير