صفحات سوريةعمر قدور

نساء سوريا ثائرات.. لسن لاجئات ولا سبايا


عمر قدور

من المؤلم ما ظهر أخيراً إلى العلن عن استغلال بعض الذكور العرب لمأساة العائلات السورية، والإقدام على الزواج من نساء سوريات اضطررن إلى النزوح إلى بلدان أولئك الذكور، بل بلغت الوقاحة ببعض المستغلين إلى حد الإعلان عن نواياهم على صفحات التواصل الاجتماعي أو بعض المنابر الالكترونية؛ الأمر الذي اقتضى من ناشطين سوريين إطلاق حملة باسم «لاجئات لا سبايا». سبق ذلك بأشهر أن أعلن شبان سوريون أيضاً عن تشرفهم بالزواج بفتيات تعرّضن للاغتصاب من قبل الأمن أو الشبيحة، وعلى رغم النوايا الطيبة وراء الإعلان إلا أنه لاقى نقداً قوياً في أوساط النشطاء من الجنسين، لأنهم رأوا فيه امتهاناً للمغتصبة، ولحقّها في اختيار شريكها من دون شعور بالعار أو بأنها ضحية العطف والشفقة.

ما يزيد الشعور بالغبن أن المرأة السورية لعبت وتلعب دوراً في الثورة لا يقلّ شأناً عن دور الذكور، ولا يجوز بأي حال الانتقاص من كرامتها، وليس الحديث عن مساهمة المرأة في الثورة السورية من باب المحاباة والتشجيع، فالبعض منهن بدأ تحركه منذ التباشير الأولى، ونعني بذلك الاعتصامات التي شهدتها مدينة دمشق تضامناً مع الثورتين المصرية والليبية، وكانت تعني أيضاً تضامناً مع الذات السورية التي تتهيأ للالتحاق بالربيع العربي، أو على الأقل هذا ما فهمه عن حق النظام الذي بادر إلى قمع تلك الاعتصامات. صحيحٌ أننا نتحدث هنا عن تجمعات صغيرة للمثقفات والمثقفين، وصحيحٌ أيضاً أن التظاهرة الأولى التي انطلقت من أمام الجامع الأموي بتاريخ 15/3/2011، وشهدت مشاركة نسائية، لم تخرج عن الإطار نفسه، إلا أن ذلك لا يقلل من أهمية الانخراط المبكر للمرأة في فضاء الثورة العام، ولا يقلل بخاصة من الأهمية الإعلامية والرمزية لحضورها.

من المتوقع طبعاً أن المشاركة المعممة للنساء ليست باليسر ذاته، آخذين بالحسبان انتشار الثورة في بيئات اجتماعية متفاوتة العادات والتقاليد، وإن بقيت تميل عموماً إلى المحافظة أو التدين. في الواقع إن الاعتبارات التي حكمت هذه المشاركة متناقضة، ولا تعبّر بالضرورة عن تطورات مستدامة في وضع المرأة إجمالاً، فبسبب مواجهة النظام للتظاهرات بالعنف المفرط انحسر دور النساء، أحياناً بما أن القسمة الاجتماعية تضع الرجال في موقع الأكثر تحملاً للعنف، لكن قتل الرجال وملاحقتهم بلا هوادة من قبل أجهزة الأمن أدى أيضاً بالضرورة إلى إقحام النساء في أتون الثورة، حيث لم يُتوقع منهن ذلك، أو حيث لم يُتوقع أن تسمح لهن بيئتهن الاجتماعية بذلك. على سبيل المثال؛ لم يكن مُنتظراً في بيئة متزمتة، كما في قرية البيضا بالقرب من بانياس، أن تخرج نساء القرية في مظاهرة ضخمة ويقطعن الطريق الدولي السريع المارّ بالقرب منها، احتجاجاً على العنف المفرط للنظام بحقّ قريتهن وبحق البلد عموماً. غير بعيد في المكان والزمان؛ كانت قوات النظام تدشن طريقتها بالمساواة بين الجنسين، إذ تم استهداف النساء في قلعة بانياس وقُتل ثلاثة منهن فيما يعبّر بشكل مأساوي عن مساهمتهن بالثورة، وفي سابقة ستتكرر كثيراً ما أن يبدأ النظام سياسة المجازر، التي استهدفت النساء والأطفال بلا تمييز.

لقد أعلن النظام مبكراً الحربَ على مجتمع الثورة ككل، فلم يستثنِ الفئات المستضَعفة تقليدياً كالنساء والأطفال، وكان من مظاهر الإصرار على سلمية الثورة في البداية خروجُ آلاف النساء في مقدمة التظاهرة الكبرى التي شهدتها مدينة حماة بتاريخ 3/6/2011 «أو ما سُمّي جمعة أطفال الحرية». إذ من المعلوم أن مدينة حماة تُعدّ من المدن التي يغلب عليها الطابع المحافظ، ولم يكن بالأمر السهل أن يخرج هذا العدد الضخم من النسوة، بمباركة اجتماعية، وأن يكنّ في الطليعة وفي مرمى أسلحة رجال الأمن المتهيئين لإطلاق النار. إن خروج النساء على هذا النحو لا يتطلب منهن شجاعة وإحساساً وطنياً فحسب، بل يقتضي من البيئة الذكورية القامعة أن تغلّب الاعتبارات الوطنية العامة على الاعتبارات الاجتماعية الموروثة، وهذا ما قد حصل في أماكن عديدة على امتداد سوريا.

من درعا في الجنوب، مروراً بريف دمشق وبعض أحيائها ثم حمص وريفها، وصولاً إلى حلب ودير الزور، قضت الضرورة بأن يعيد المجتمع الثائر تعريف ذاته متخلياً عن جزءٍ من تقاليده قبل الثورة. وبسببٍ من رسوخ هذه التقاليد في بعض الأماكن، فإن ما حدث يُعد ثورة في الثورة نفسها، فليست بنقلة بسيطة مثلاً أن تؤوي فتاةٌ متظاهرين هاربين من الاعتقال أو القتل، في غياب لذكور عائلتها؛ تلك الفتاة التي نُظر إليها دائماً على أنها عورة بالمطلق، ولا يجوز لها حتى أن تفتح باب المنزل عندما يُطرق، بل وتَربَّت على أن تنظر إلى نفسها هكذا. لقد أمّنت الأبواب المفتوحة، في غير مكان، الحماية غير المنتظرة للكثير من المتظاهرين، وفي حالات فائقة الشجاعة خرجت الحماية إلى العلن كما فعلت إحدى الأمهات المسنّات في بلدة شهبا عندما راحت تمنع بعصاها شبيحة النظام من ضرب المتظاهرين، وهذا ما فعلته أيضاً فتاة في جامعة حلب، عندما اشتبكت مع الشبيحة لتمنعهم من اعتقال زملاء لها، ما أدى إلى اعتقالها هي.

رغم كل الحوادث والمعطيات السابقة، لا تجوز المجازفة باستخلاص استنتاجات عن تحسنٍ في وضع المرأة السورية، ومن غير الواقعي انتظار انقلاب جوهري في بعض البيئات الاجتماعية بسبب الظروف الطارئة التي تفرضها الثورة، وحتى من جهة العقلية الذكورية ذات الطابع الديني يمكن تبرير «التساهل» الحالي مع المرأة ضمن باب «الضرورات التي تبيح المحظورات»، وهذا لا يعني إباحة ما يُعد محظوراً عند زوال الأسباب. لكن المسألة ليست بهذه البساطة أيضاً، فالنساء اللواتي تذوقن طعم الثورة وقيمها لن يبقين هنّ أنفسهن كما كنّ من قبل، وقد لا يكون من السهل إعادتهن إلى وضعهن السابق، على الأقل قد لا تنفع الذرائع التقليدية السابقة في إعادتهن إلى حظيرة الطاعة العمياء، وقد يتطلب ذلك مناورات أكثر حنكة من قبل لإعادة السيطرة عليهن.

إن جانباً مهماً من الوضع المستقبلي للمرأة السورية يُرسَم الآن، خصوصاً بسبب الوحشية الشديدة التي يتعرض لها الثوار، والعدد الضخم جداً من القتلى وذوي العاهات الذي خلفته آلة القمع، والذي من المتوقع ارتفاعه بحدة مع فقدان النظام لأي أمل بالبقاء. هذا الواقع، وكما في كل الحروب، سيرتب على النساء مسؤوليات اجتماعية مستجدة. وبعيداً عن أفكار ومُثُل المساواة، فإن المجتمع الذكوري التقليدي قد يجد نفسه مضطراً لتجرع فكرة نيل المرأة لبعض حقوقها، لأن ما ستناله المرأة سيتناسب طرداً مع المسؤولية الملقاة على عاتقها. من المتوقع مثلاً أن تضطر نساء بعض العائلات إلى الدخول إلى سوق العمل، بسبب قتل معيلهن أو تعرضه لإعاقة دائمة، وإذا كانت هذه الأوضاع المأساوية مدعاة للأسف، إلا أنها بحكم الأمر الواقع ستعيد تموضع المرأة على نحو مختلف عن ذي قبل؛ تموضع ليس بالتقليدية السابقة وليس ملبياً للطموحات بكل تأكيد.

إن محك الثورة الحقيقي هو في التغييرات الاجتماعية طويلة الأمد. وفيما يخص المرأة السورية، فقد خالفت منذ البداية القسمة المعهودة، فمع آلاف النساء اللواتي قُتلن لم يعد ممكناً اعتبار النساء ضحايا من الدرجة الثانية وحسب، فضلاً عن حوادث الاغتصاب، التي ستدلّ طريقة معالجتها على العقلية التي سيعالج بها المجتمع قضاياه بدءاً من الآن. في الواقع، لم يكن للثورة السورية أن تكون ما عليه الآن لولا المساهمة الفعالة للمرأة، وسيكون مستحقاً لها أن تقطف نتائجها بالقدر الذي تحملت به مسؤولياتها الآن، وبقدر ما تتحمله مستقبلاً. مرة أخرى؛ الأمر لا يتعلق فقط بالرغبات أو بالنوايا الحسنة للبعض، إنه يتعلق بالدرجة الأولى بمدى استفادة المرأة من الظروف الاجتماعية المستجدة، ولن نجانب الأخلاق إن استطردنا بالقول: بما في ذلك الظروف الإنسانية المأسوية.

المستقبل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى