نسب المؤلف/ عباس بيضون
تسأل شاعراً عمن أثر فيه من الشعراء فيحجم عن الجواب، ولا يذكر اسماً لكنه يقول انه تأثر بالفلاسفة ويسمي فيلسوفاً أو اثنين. أما الروائي فقد يكون تأثر بشاعر لكنه قطعاً لم يتأثر بروائي. وتسأل رساماً فيقول لك ان ماراً شاهده يرسم وقال له ان رساماً يسمى ديفي اوبيكالسو يرسم مثله. بطبيعة الحال لا ننتظر من مبدع عربي أن يصرح بأنه تأثر بسابق عليه. فذلك يعني له ولغيره من المبدعين العرب أن لا حاجة له، إذ يستغنى عنه بغيره. يعني بالطبع أنه ليس أصيلاً وان ما فعله لم يصدر عن موهبة أصلية وانما استعير من آخر فهو ليس له وليس منه وبالطبع يستغنى عنه بغيره.
هذا ليس من الخيال. انه ما يدرج عندنا، لا يصرح مبدع بدينه لأحد ولا يذكر اسماً وأثراً فعلا فيه، هذا في نظره ليس سوى اعتراف بسرقة واعتراف باغتصاب. يصر المبدع العربي على أنه يدين بكل شيء لموهبته، وان هذه الموهبة نقية صافية لم يداخلها شيء ولم تشبها خلطة فهي أصلية كاملة. إن أنت سألت موسيقياً فلن تفوز بأي جواب رغم ما يندس في عمله من أعمال دارجة في الموسيقى. إن سألت رساماً فلن تفوز بجواب ولو كانت أصابع الغير مطبوعة على لوحاته وأعماله. لن تفوز بجواب من روائي أو شاعر أو مسرحي أو سينمائي، فالجميع يعتبرون السؤال تعديا عليهم واتهاما لهم بالسرقة ونقص الموهبة.
هذا دارج بين المبدعين العرب لكنه ليس كذلك لدى المبدعين الآخرين الذين لا يستحون من ذكر تأثراتهم ولا يبخلون بتسمية من أثر فيهم. أذكر في هذا المجال مثلين يخطران لي ولعل فيهما ما يغني. كتب ت.س اليوت إلى سان جون برس الذي كان ترجم له امار بأن القصيدة الطويلة التي ترجمها أثرت فيه وفي شعره، علما أن إليوت آنذاك كان أشهر من برس وسبقه إلى جائزة نوبل. مثل آخر صرح أودن الشاعر الإنكليزي المشهور بأنه في سنوات نضجه تأثر بالشاعر الألماني ريلكه ولا حاجة إلى ذكر شهرة الشاعرين.
أظن أن إحجام المبدعين العرب عن ذكر تأثراتهم وخجلهم بها يعود إلى مسألة النسب، فالنسب عند العرب ينبغي أن يكون صريحاً لم تشبه هجنة. والعربي يتفاخر بالنسب الصريح ويتشبث به بينما يستصغر النسب الهجــين المختــلط ويجده مرذولا لا يعتدّ به ولا يُبنى عليه. لا بد أن التــأثر يدخل هــنا في مــقام الهجــنة. فالنص المــتأثر مختــلط النــسب ولا بد له من أن يكون بدون شائــبة ليرتد إلى صاحبــه وليكــون له، وليعــد صريحــا، وليــكون ابن موهــبته وحدهــا لــم يداخلــها عنــصر مــن خارجــها ولم تخــتلط بسواها.
لا يبدو مع ذلك أن نسب النص ونسب المؤلف يمكن أن يكونا صريحين صافيين إلا بقدر من الزعم والاختلاق، فنسب النص مثله في ذلك النسب الدموي ليس صافيا إلا في مخيلة أهله. لا بد لنسب النص من أن تتوارد عليه طبقات من المصادر والمراجع، ولا بد أن تحتشد عليه تأثرات يغيب مع الوقت أصلها وتغدو مع الوقت دارجة معتادة، فالنص الصريح أكذوبة كالنسب الصريح والمؤلف الذي لا يدين لغير موهبته أكذوبة أيضاً. اللغة أيا كانت، لغة الأدب أو لغة التصوير أو لغة السينما والمسرح، كل لغة فضاء يتكون مما توارد عليه من الخاصة والعامة ومما تفاعل وتبادل وامتزج من مؤثرات صريحة وغير صريحة، ولا يمكن ان يكون كذلك صنيعة المؤلف وحدها الذي بالطبع جمع ورتب ودمج، لكنه في كل ذلك جمع ورتب وزاوج في لغة جاهزة وفضاء أسلوبي ولغوي حاضر. الشاعر هو الطبع حصيلة الفضاء الشعري وليس شأن المصور والموسيقي والسينمائي والروائي والنحات غير ذلك.
الشاعر يبني على الشعر كله، والروائي يبني على الرواية جميعها، والسينمائي يبني على السينما بكليتها، والموسيقي يبني على مجمل الموسيقى والنحات يكمل مسيرة في النحت. إنه حجر على حجر وحلقة في حلقات، عنصر في عناصر وإضافة إلى إضافات، ولو اننا أجزنا لأنفسنا أن نبتعد قليلاً، لقلنا ان المؤلف يكاد يكون وهماً وأن وراءه مؤلفاً أكبر وأوسع. مؤلف موضوعي هو اللغة نفسها، والفضاء الأدبي أو الفني، أو التراكمات والإضافات التي تفاعلت واندمجت عبر الأيام. بل يمكننا حتى القول إن المبدع هو على الأقل في سلسلة من التجاريب والممارسات تطورت أو تسلسلت جيلاً بعد جيل، ومؤلفاً بعد مؤلف، ومبدعاً بعد مبدع. وإن لم يرث الشاعر اللغة كلها، والروائي الرواية كلها، والمصور التصوير كله، فقد ورث على الأقل شعراء سبقوه وروائيين جاؤوا قبله وموسيقيين مهدوا له، وكل هؤلاء صنعوا لبنة لبنة ما هو الشعر وما هي الموسيقى وما هي الرواية وما هي السينما وما هو التصوير.
السفير