نشيد الانشاد هذا..
نائل بلعاوي
ماذا كنا ننتظر؟ وروداً يوزعها رجال الامن على الصبايا في شوارع درعا الحزينة؟ قصائد حبّ ٍ تعلقها فروع الحزب على الجدران والساحات في دوما ودمشق؟ ام خروج الرئيس الى المنصة باكياً، صارخاً في الفضاء المعمد بالدم: ‘أعتذر. أعتذر لأنني انا انا، لانني هنا.
لانني وريث أب ٍ فاشي النزعة والتراث، لانني صرت واجهة لحزب ٍ تفنن في اختراع وسائل الاقصاء والالغاء والقتل الممنهج؟ وأعتذر عن كوني الممثل الفعلي لهذا التحالف الشيطاني بين غرائب الصدف واصحاب المصالح وثقافة الحكم البليدة والجنون الكلي للمراحل السابقة، وها انذا اتنحى… اعيد لكم حيواتكم واحلامكم وأزقة بلداتكم… وأنصرف: فقد وصلت الرسالة، بوضوح الدم والعذابات اللحظية وصلت. بهذا التدفق الشمولي العظيم وصلت، وما عليّ الآن سوى استلهام المعنى التونسي والمصري، وتجنب النهايات الحتمية للعقيد الليبي واليمني، وها انذا ارحل’؟؟
من كان منا ينتظر مثل ذاك النشيد … فلينتظر المزيد من الجثث.
من كان منا ينتظر، خروج النظام من جلده.. فلينتظر المزيد من حصار المدن والقرى وقطع الكهرباء ووسائل الاتصال.
ومن كان منا ينتظر لحظة انقلاب البنية الدموية على نفسها، وتلاشيها من الداخل… فما عليه سوى انتظار القتلة، وامعان النظر اكثر في صدق المشاهد القادمة من عموم مناطق البلاد، فالصورة ارقى واوضح، ونداء الاستغاثة الهادر على الطرقات اعلى من عواء ابواق النظام وسدنة هيكله الاعلامي الباهت والمتداعي مثل بيوت القش.
اقول لمن صدق كذبة النظام عن الاصلاح والغاء القوانين التعسفية، وراح ينتظر الخلاص المرتقب عبر سيرورة انتقال طبيعية من عمق الظلمة الى اول النور: ما عليك سوى فتح الارشيف السوري الممتد الى عقود طويلة اربعة، لترى الامثلة تجر الامثلة وتستحضرها… من مصادرة الرأي الاخر، والزج بالشعراء والكتاب وباعة الخضار والمكسرات… بذنب الحلم وحده… في السجون القبيحة شكلاَ ومعنى. الى جعل الارهاب والترهيب ركائز حكم شامل وتسلطي يختصر الحاضر عبر دوافعه الذاتية للبقاء، ويختصر الناس الى مجموعة هلامية من الكائنات المعدة، في كل يوم، للفتك بأحلامها وارواحها وسعيها العادي، جد العادي والبسيط، للعيش في ظل حرية، مكتسبة اصلاَ، في المكان الأم.
من يصدق النظام… فليصدقه: تلك بلاهة المجرب حين يعود الى الحفرة اياها. وتلك، وهذا هو الاخطر والاهم، وسيلة دفاع ذلك النظام عن نفسه امام العالم :
– نريد فرصة ثانية، فها نحن نصلح ونبني ونلغي القوانين القديمة المعدة لقتلكم. وما عليكم الان سوى الرجوع الى بيت العائلة، لنعمل معاَ، على اكتشاف خيوط المؤامرة الامريكية الصهيونية الرجعية السلفية الطائفية التي وصلت الى باب غرفة النوم، وراحت تهدد متعتنا المشتركة ودفء الوصل بيننا ؟؟
يتابع النظام، بلا كلل او ملل، ترديد نشيده الملحمي العقيم ذاك، وترد ابواقه الكثيرة الصدى. وحين تفرغ جعبته يعود الى لازمته المفضلة، تلك الاكثر مدعاة للسخرية والاحتقار: لازمة ـ الممانعة – ونظيرتها الدائمة: – المقاومة -، معتمداَ، هناك، على حقيقة وجود العدو الذي ـ يقاومه النظام ويمانع ضد الصلح معه ـ في الجولان المحتل وقرب الحدود الآمنة…. الآمنة دائما وابدا، انسجاما، بالطبع مع روح الاتفاق، غير المعلن، بين النظام و ـ عدوه اللدود – اذ يقوم الاول بتأمين الحدود وضرب احتمالات تهديدها. ويعمل الثاني على استمرارية الاول ودوام سلطته. وكانت اسرائيل، انسجاما مع بنيتها العنصرية الصارخة، قد ساعدت، بل عملت ايضا، على استقرار تلك الانظمة الوحشية المحيطة جغرافيا بها، وتلك الاخرى، الابعد قليلا عنها، فتحالف الشياطين المستمر ذاك يقضي، اولا، بعزل العربي عن محيطه الطبيعي، وفضاء انشغالاته الانسانية، ودفعه، بعديد وسائل الاضطهاد بعيدا عن قضيته المشتركة: فلسطين.
ممانعة ومقاومة وثرثرات لا تنتهي عن قلاع الصمود وفنون التصدي، وعلينا ان نصدق!! على السوري، الذي يتحسس رأسه صباح مساء، ويهمس همسا لجاره…. (إن غامر وهمس) بشكواه وسوء احواله… فالحيطان لها آذان، وعواقب البوح البسيط لها ما لها من صور وطرائق تعذيب، عليه ان يصدق، وان يحتفي بالممانعة التي لم يعرف منها سوى قدرتها على منعه هو من الحلم… ان يتلو آيات المقاومة مع صلواته الخمس وفي ابتهالات الكنائس، مدركاً ان المقاومة في عرف النظام وفكره لا تعني اكثر من مقاومة المد الهادر للناس نحو الحرية، وان الصمود الوحيد الذي تحقق على الارض، هو صمود الجدران العالية التي شيّدها النظام ولف بها المكان وافراح اهله، ولا شيء اكثر.
تنهار الجدران تباعاَ…. ها هي تنهار: بضربة هنا واخرى هناك، بدماء هذا الشهيد في درعا وذاك في بانياس ودمشق.. تنهار، كما تنهار هلوسات النظام واكاذيبه القديمة: – الاصلاح المنتظر. التغيير. محاربة الفساد. المقاومة ـ الى آخر الهذي الاثير.
من يصدق النظام الان، الامس وغداً، لا يدفن رأسه في الرمل فحسب، بل يقف طائعاً الى جانب الموت: نقيض الحياة. الى جانب الالم: نقيض الفرح. الى جانب القتل : نقيض الولادة. فلا مكان هنا، بين الشيء ونقيضه، لخيار ثالث، لان المعادلة واضحة هنا وصارخة، ولا تحتمل الكثير من الجدل والتأويل: اما الحياة واما عكسها ؟؟
انا الموقع ادناه، وصديقي السوري العائد للتو من عنف اللحظة الهادرة هناك وارتفاع معانيها، وجارتنا العجوز، شامية الاصل والهوى: لا نصدق غير الدماء الزكية على جوانب الطرقات في درعا. في الساحات الخلفية لدمشق. على امتداد الطريق المؤدي الى البحر في اللاذقية. في حماة. حمص. دومة وبانياس.
لا نصدق غير الامل، ولم نكن ننتظر، بين هذا وذاك، وداعة مستحيلة او وروداً توزعها الاجهزة المتغولة على الناس، او ان يخرج الوريث الى شعبه ويقول: اعرف اوجاعكم واحلامكم وأعتذر.
كل ما كنا نصدقه، ونحتفي به الان وننتظر غده، هو هذا النشيد البديع، نشيد الحياة: نشيد الانشاد السوري.
فيينا… 2011
القدس العربي