نصان لـ تشيسلاف ميلوش
هنري ميلر.. الأرض العقيمة
هذا النص المترجم والمنشور هنا، هو فصل من كتاب الشاعر البولندي الكبير تشيسلاف ميلوش (1911 – 2004، جائزة نوبل للآداب عام 1980) «رؤى فوق خليج سان فرانسيسكو»، وقد خصّت المستشرقة أجنيشكا بيوتروفسكا التي ترجمت الكتاب، «السفير» ببعض فصوله قبل صدوره. هو، كما تعرفه المترجمة، كتاب «يبدو مثل ريبورتاج لمراقب أوروبي وجد نفسه في أميركا، وتحديداً في كاليفورنيا، في ستينيات القرن العشرين. وبهذا يصبح جزءاً من تقاليد الرحلات البولندية عبر أميركا التي قام بها الأدباء».
كتاب لا يمكن وصفه فقط بأدب الرحلات، إذ إن الشاعر البولندي، خلال زيارته يكتب عن العديد من الظواهر الأدبية والفكرية، كما عن العديد من الكتّاب الذين التقاهم خلال زيارته للولايات المتحدة الأميركية. نختار هنا الفصل المتعلق بالروائي الأميركي هنري ميلر، على أن تصدر الفصول الباقية تباعاً على موقع «السفير». إشارة أخيرة إلى أن العناوين الفرعية ليست من متن النص، بل من وضع التحرير.
قرأتُ كتب «هنري ميلر» منذ فترة طويلة، مباشرة بعد الحرب، وكانت ردود أفعالي تُمليها عليّ عاداتي. لا أعرف إذا كانت هذه العادات التي لم أتخلص منها حتى الآن تستحق الثناء، أم هي مجرد تحيّزات شائعة من حيث أتيت. ربما كانت تحيّزات فحسب لكنني لن أخفيها. إذاً أولاً، ألاحظ في نفسي احتراماً قد يكون مبالغاً فيه للأدب كشفرة، أي إنّ يد الكاتب بالنسبة إليّ ليست تحت إرادته بالكامل أو حتى تحت سيطرة عواطفه العمياء، بل هناك يد أخرى تمسك بها وتحركها على الورقة، إذ إنه سواء كان واعياً لذلك أم لا، فإن عمله بذات الطريقة التي ترتبط بها الكلمات والجمل، يوثق المكان واللحظة، بينما يحقق أهدافاً لا يسبر غورها. ذلك التوثيق لا يخلو من الغموض وتغير المعنى اعتماداً على تغيرات المكونات الأخرى لهذا النظام المتلوّن الذي تصبح أجزاؤه كل تسجيل للصوت البشري الواحد. ثانياً، ربما إرثي الرومانسي يفسر قناعتي بأنّ الجنس البشري الذي يعيش في بعده الخاص والمحدد ـ الزمن ـ ويتراكم من خلال ذاكرته، عنده في أيّ لحظة معرفة مُثلى معينة قابلة للتغيير عن نفسه، وأي تميّز في الفلسفة أو في الفن مستحيل إلا من خلال الحصول على تلك المعرفة المثلى. لا أتوقع من الكتّاب أدلة على أنهم ملمّون بالتيّارات والاتجاهات إلخ… ولا التفلسف، فكلما كان لديهم زهو ثقافي أقل كان ذلك أفضل. بيد أنه يبدو من شبه المؤكد لي، أن العقل المدرّب يختلف في نوعيته لا كميته عن العقل غير المدرب، ولا يجب عليه أن يدخل في مجادلات عميقة لكي يثبت ذلك. أيضاً فإن طرق تدريب العقل التقليدية هي الفضلى، مع أنها في شكلها الكاريكاتوري، على سبيل المثال في المدارس الثانوية الفرنسية، كانت ببساطة مثيرة للضحك.
غوركي
هنري ميلر كان شديد التطرف في معارضة نفسه ضد كل ما هو غير نفسه، إلى درجة أنه رفض الأدب كمجموعة من النماذج الموروثة. وحيد وفريد من نوعه، مرتّلاً القداس في حضرة نفسه، أي أمام صورة الذكر المثالي (كلهم، «ويتمان»، «هارت كرين»، «عزرا باوند»، «همنغواي» كتبوا «أغنية عن أنفسهم») – ظهر لي ميلر كأنه وسيط روحي تحت التنويم المغناطيسي. وسيط روحي يتشوّه، يهتز بالتيّار القوي، بينما يتشنج بشكل واضح مع عنف إيماءاته وبذاءة لغته، في سيل الشتائم ضد عدوّ ما، برغم أنه لا يمكنك أن تعرف مِن نحيبه مَن أو ما هو هذا العدوّ. القرن العشرون؟ أميركا؟ نيويورك؟ زار «مكسيم غوركي» نيويورك قبل الحرب العالمية الأولى، ووصفها بطريقة سلبية في عمله «مدينة الشيطان الأصفر». الشيطان الأصفر بمعنى الذهب. ولم تكن هذه اللوحة الهجائية مبالغاً فيها، وخصوصاً أن «غوركي» ربط نفسه بالفقراء وبعامة المهاجرين. بالنسبة إليهم كانت الحياة في هذه المدينة قاسية بنحو يائس وتختلف كثيراً عن التخيلات الساذجة عن أميركا لدى أقاربهم في قراهم البعيدة. بيد أن تلك اللوحة كانت أحادية البعد للغاية، وهي اليوم مجرد أثر لبقايا نقد الرأسمالية من النوع الذي ما يلبث بطريقة أو أخرى أن يخطئ إصابة الهدف. وأثبت الشيطان الأصفر مقدرته على القيام بمعجزات لم يستطع «غوركي» تخيّلها، ولهذا السبب فإن نشاط عدد كبير من زملاء «غوركي» الاشتراكيين على هذه القارّة لم يحقق هدفه. العدو الذي يؤرق «ميلر» في نشوة حلمه ليس له وجه ولا جسم، لا يمكنك أن تصل إليه، أن تضربه، أن تجرحه، يهرب من التسمية والتشخيص. قد يكون هو الحضارة التقنية في القرن العشرين والطريق المسدود المفترض الذي قادنا إليه عقلنا النشيط المعتلّ، أو مجتمع البشر عموماً، أو أميركا – الأشكال تتجمع وتسيل بالتناوب، يسبح بعضها في بعض. على أي حال إنه «أرمجدون»، يمكننا أن نسمع فيه أبواق يوم القيامة. الفرد يجب أن يدافع عن نفسه بقدر ما يمكنه، من خلال البصق والسخرية كما فعل ميلر حتى إنه أعطى لكتابه عن رحلاته في أميركا عنوان «كابوس مبرّد الهواء» (Air-conditioned Nightmare).
الضوابط الداخلية
كان ميلر من أوائل أنبياء الدعوة للانسحاب إلى داخل البعد الشخصي المحض، ما كنّا نسميه البعد الجنسي الباطني، وواحداً من الأوائل الذين انسحبوا أيضاً في ممارساتهم اليومية من دائرة «الكسب والإنفاق» إلى كوخ مجهّز بشكل بدائي في «بيغ سور». ربما لم أكن أحمق عندما قرأتُه قبل عشرين عاماً كوسيط للقوات المجهولة. لم يكن قد ظهر بعد حينئذ جيل «بيت»، لم ينشر «ألين غينسبيرج» «صرخته الهستيرية» المستوحاة من ميلر بلا شك، لم يكن هناك «هيبيز». مهما يكن تأثير ميلر (وهو ليس واسعاً جداً في نطاقه)، فإنه لم يكن هو الذي أنجب حشود أقاربه. تم دعوتهم إلى الوجود عن طريق القوى نفسها التي مزقت الكلمات البذيئة من فمه. على الرغم من إعجابي بميلر – لأنه من منّا لا يحلم بأن يتخلص من الضوابط الداخلية ويجلس على الآلة الكاتبة ويضرب عليها أول شيء يخطر على باله – فأنا لم أثق به أبداً. ثمة شيء يسمى التقاليد الإنسانية، ولا أستطيع إقناع نفسي بأن هذه المعرفة المثلى التي ذكرتُها سابقاً يمكنك أن تحققها خارجها. صحيح أنّ ميلر الذي علّم نفسه بنفسه لم يتغذَّ فقط ممّا أعطته الأرض العقيم لموطنه «مانهاتن». كما يقول أنه ترعرع على كتابات «فريدريك نيتشيه». وفي وقت لاحق استفاد كثيراً من السنوات التي قضاها في باريس. أسلوبه في الكتابة لم يولد من نفسه، إلى حد ملحوظ كان مأخوذاً من الشاعر والروائي الفرنسي «بليز سندرار». ولكن «نيتشيه» يمثل التمرد الإنساني، العالم المتعمق بشكل ممتاز في العلوم التاريخية، في علم اللغة، في مواجهة الأفكار التافهة للمعاهد الأكاديمية. أيضاً حيوية ولا مبالاة «سندرار» (الذي يمكن أن تكون مغامراته في حياته قد أثرت على ميلر)، كان لهما خلفية الممارسة لدى النحويين وأساتذة البلاغة الفرنسيين. لقد أخرج لسانه لهم، ولكن على الرغم من ذلك كان مرتبطاً بهم بارتباطات عديدة حتى ولو في معارضته لهم. يحدث شيء مثير للقلق للكتّاب الأوروبيين، وخاصة عند «نيتشيه»، عندما يلقي الأميركيون أنفسهم عليهم. يختفي تلاعبهم بالتناقضات، سمة معينة من الفكاهة المخبأة تحت شراستهم المستوحاة من الخيال التاريخي، فيما يستخرجه الأميركيون من العناصر التي تمكنهم من التوافق مع مثال «الإنسان الطبيعي»، في الواقع إنسان العلوم الطبيعية. نيتشيه، إبليس التعيس، الفخور والنقي، وجد تجسد العوامّ في ميلر. كما قال أحدهم، الزنى هو الشعر الغنائي للشعب. لم يأتِ ميلر بأيّ بشارة سارّة ولا gaya scienza للإنسانية المحكوم عليها بالنسبة له بالفوضى المتطورة والهراء وأخيراً الدمار.
وكل الإجراءات التي استخدمها كي يقدم وضع الإنسان في المكان والوقت المعيّنين كوضع للإنسان عامّة، كانت واضحة للغاية، على الأقل بالنسبة إلى شخص كان «سوداوياً» مثلي أنا، ثم شاهد بعينيه تحقق النبوءات الأكثر كآبة، التي على أي حال، لم تكن تعني نهاية العالم ولكن كشفت مقدرة الإنسان غير المتوقعة على البعث من جديد. إثقال العقل من خلال الصيغ الأكاديمية حتى لا يصبح واثقاً من نفسه وخجلاً ومجبراً على الإذعان، إنه بالتأكيد الوباء وثرثرة البركانية لميلر غير المبالي بأي سلطة تكون فاتنة ومثيرة. كما لو أن «مريخياً» قد وجد بالصدفة أعمال الأرض العلمية والفنية… أحكام مبهرة في نضارتها. ولكن موهبته الكبيرة في الكتابة تغطي قبل كل شيء على الاضطراب غير الناضج في رأسه. تحدثتُ مع ميلر مرة واحدة فقط، في باريس، ربما في عام 1952. لم يعجبني جشعه تجاه نبوءات نهاية العالم. وإلى جانب ذلك لم يكن لدي حظ في علاقتي معه. وعدتُه في عام 1948 أن أزوره في «بيغ سور». ومنعتني عقبات فلم أزره. وفي وقت لاحق في باريس، وعدتُه أن أجد كتاباً نادراً يحتوي على نبوءة لكارثة الجنس البشري La Clef de l’Apocalypse لأوسكار ميلوش الذي كان يبحث عنه في مكتبات الحي اللاتيني، ولم أجده. نسيتُ الوعد، كان لدي آنذاك الكثير من المشاكل الخاصة بي. أشار ميلر لكل ذلك بتهكم في يومياته وكتب عني بعدم دقّته المعتادة وسمّاني مؤلف الرواية المكتظة التي اكتسبت شهرة. أسباب تلك الأحقاد لا يصعب تخمينها. ميلر أراد الإعجاب المطلق، لم يحب أولئك الذين شعر عندهم بالمقاومة، وبالنسبة له كانت الوعود التي تُخلف، وربما كان على الحق، تمثل كناية عن رفض التكريم له.
ترجمة: أجنيشكا بيوتروفسكا
رؤى فوق خليج سان فرانسيسكو
هنا مقدمة الكتاب، تليها فصول أخرى تنشر تباعاً..
ملاحظات بعد سنوات
هذا الكتاب يبدو مثل ريبورتاج لمراقب أوروبي وجد نفسه في أمريكا، وتحديدا في كاليفورنيا، في ستينيات القرن العشرين. وبهذا الشكل يصبح جزءا من تقاليد الرحلات البولندية عبر أمريكا التي قام بها الأدباء. في القرن الثامن عشر كان “يوليان أورسين نيمتسيفيتش”. في القرن التاسع عشر كان “هنريك سينكيفيتش”. كنتُ أتشرف بتواجدي في رفقتهم. كانوا كتّابا بارعين في الصحافة، وأقوياء الملاحظة وأذكياء.
بيد أنه لا يصعب ملاحظة أن “رؤى فوق خليج سان فرانسيسكو” يبدو ظاهريا فقط، منتميا إلى أدب الرحلات. نعم، بالتأكيد المؤلف هو أحد القادمين من أوروبا، وليس أوروبا عموما، ولكن من أطراف أوروبا، وهو لا يخفي ذلك، بل يتذكر مسقط رأسه الذي كان فيه المالك الوحيد لسيارة هو الكونت “زابيووا”.
هذا الرجل القادم من الأقاليم إلى أمريكا لم يأت من أجل الزيارة وهو غير منشغل بمشاهدة المعالم السياحية، فالقدر جعل منه مهاجرا منفيا، واحدا من بين الملايين الذين طُردوا من أوروبا البخيلة بسبب الاحتياج البائس. في حالته هذه، أخذ الاحتياج شكل ما يسمى ﺑ “هجرة المواهب”. صحيح أن “نيمتسيفيتش” استقر أيضا في أمريكا، بعد أن ودع “كوستيوشكو” الذي كان عائدا إلى أوروبا، ولكنه لم يبق في الموطن الجديد بشكل دائم. مؤلف “رؤى … “، الأستاذ في الآداب السلافية في بيركلي، تقبل مصيره بدون أن ينظر محدقا تجاه الأراضي التي فقدها.
إذا لم يكن هناك مكان يمكنك العودة إليه، فعليك أن تتقبل ما يعطى لك. ولكن كيف تتعايش مع هذا الأمر؟ كيف يمكن أن تروضه؟ ولا أقصد هنا أمريكا بالخصوص، بقدر ما أقصد حضارة القرن العشرين بطابعها الكاليفورني. في الواقع لم يتم تحديد اطار الكتاب جغرافيا بل موضوع الكتاب هو الوعي والخيال في مواجهة المشاكل والصور التي لم يتم تسميتها وتطالب بنقلها إلى اللغة. ونتيجة لذلك، بدلا من الريبورتاج نتلقى رحلة استكشافية في أعماقنا، بورتريه داخلي لشخص يحدث أنه يعيش في عصر العولمة وأول هبوط للإنسان على سطح القمر. وقد كُتب هذا الكتاب في وقت مميز لأمريكا، في عام “ثورة” الطلاب في بيركلي التى انتشرت إلى جامعات أخرى. لماذا انفجرت في نفس الوقت تقريبا ثورة الطلاب في السوربون و”ربيع براغ “، على الرغم من أنه لكل من هذه الظواهر مسببات مختلفة تماما – يبقى هذا السؤال بلا إجابة. تصلح هذه المسألة لأنصار نظرية تأثير الكواكب على السلوك البشري. في أي حال، لقد جاء الصحفيون من جميع أنحاء العالم إلى بيركلي ليرووا هذه العجائب. كان لدي، بالطبع، ما يكفي من المواد لكي أكتب كتابا عن هذه الثورة. اضطررتُ بكل قوتي أن أكبح جماح نفسي، لأنني أدركت بأنه من الأفضل أن أترك تسجيل الأحداث العابرة لمراسلي الصحف. هذه الأحداث موجودة في الكتاب ولكن كأنها تم تقطيرها، وارتفعت فوق الوضع الدقيق الراهن.
طبعت هذه الستنيات الثورية أثرا لا يمّحي على حياة أمريكا. وكما ظننتُ، فإن نظام البيع والشراء استوعب وذوب الأفراد المتلهفين من ذوي الشعر المشعث، وبدّل بعضهم ليصبحوا من ملوك الأسواق. بيد أن الكثير من معجبي “تشي جيفارا” و”ماو” و”ماركس” في ذلك الوقت، بعد أن أصبحوا أساتذة ومعلمين احتفظوا بتلك العقلية المميزة والتي تشجع على التفكير الجماعي وعلى التقسيم إلى المطيعين والزنادقة.
هناك صفة واحدة ﻟ “رؤى …” تستحق الانتباه. ثمة هنا رجل متفرد، مستبعد من المجتمع بسبب أصله الأوروبي الشرقي، “وحيد بين الناس” في حالة تعجب. بالنظر إلى الكتاب من هذا الجانب، فإنه يجب علينا أن نعتبره دراسات أنثروبولوجية، لا تختلف كثيرا عن تلك الموجودة في “العقل الأسير” ، حيث المؤلف المعزول عن بيئته، يخضع النظام لعملية “تغريب”. هذه الطريقة تنتمي إلى ذخيرة من الاساليب الفنية المعروفة في الكتابة. نعثر على مثال كلاسيكي لاستخدامها في “رحلات جاليفر” وأيضا في وصف “سان بطرسبرج” عند “ميتسكيفيتش” في المعاهدة Ustęp. النهج النظري ﻟ “تغريب “( o s t r a n n i e n i j a) كمصطلح شعري اخترعه الباحث الروسي في الأدب Wiktor Szkłowskij . بالنسبة إليه، فإن هذه الطريقة تشير إلى “وصف انسان أو موضوع أو ظاهرة في العمل الفني كما لو كان يُنظر إليه لأول مرة، وبالتالي يتخذ صفات جديدة. ولذلك، فإن حتى أي موضوع عادي ومعروف يمكنه، مثل أية ظاهرة جديدة، أن يبدو غير مألوفا وغريبا”.
كراكوف، في ديسمبر 1999
ترجمة: أجنيشكا بيوتروفسكا
السفير