نظام الأسد وأدوات البقاء
علي الغفلي
يواجه نظام بشار الأسد أزمة متفاقمة تنذر بسقوطه، وهو يلجأ إلى استخدام ثلاث أدوات بهدف التغلب على هذه الأزمة والبقاء في ممارسة السلطة . تتمثل الأداة الأولى في ممارسة الكذب، وذلك في محاولة تصوير الثورة الشعبية ضد نظام الحكم بشكل يخالف مضمونها الحقيقي، بالقول إن سبب حالة عدم الاستقرار يعود إلى وجود جماعات مسلحة إرهابية في البلاد، الأمر الذي يتطلب تدخل قوات الجيش من أجل المحافظة على الأمن العام .
لايزال النظام الحاكم متمسكاً بهذه الكذبة منذ اندلاع الثورة وحتى الآن، على الرغم من أن الجميع يعلم أن ما يحدث يعبّر عن إجماع الإرادة الشعبية على الإطاحة بنظام بشار الأسد، ومن المؤكد أن النظام يدرك أن لا أحد داخل سوريا أو خارجها يصدق خرافة الجماعات الإرهابية المتسللة . لم يخرج نظام الأسد عن السلوك المتوقع من أنظمة الاستبداد بشكل عام حين تواجه أزمة بقائها في وجه غضب الإرادة الشعبية، ولكنه دخل بإصراره على الكذب في نطاق فقدان الصدقية، وهي تكلفة سياسية ضخمة يدفعها بشار الأسد من دون أن يجني أية عوائد يمكن أن تصب في زيادة فرص نجاته من مصير الفناء الذي ينتظره .
وتتحدد الأداة الثانية التي يستخدمها نظام الأسد لمواجهة الثورة في محاولة كسب الوقت، وذلك من خلال وعود وممارسات المماطلة والتأجيل بكافة أشكالها . يعدّ اللعب على عامل الوقت صفة لصيقة في السلوك السياسي لدى هذا النظام، ومن المؤكد أنه قد ورث هذه الصفة من نظام والده الراحل، والذي كانت الصفة الماراثونية تغلب على عملياته السياسية وممارساته الدبلوماسية .
إن محاولة انهاك الخصوم والأعداء من خلال إغراق طاقاتهم في بحور المماطلة وإضاعة الوقت التي تفضي إلى استنفاد صبرهم، ومن ثم الدفع بهم إلى اليأس من الحصول على أي مردود يذكر، يعد نهجاً راسخاً قد درج عليه نظام الأسد طوال أكثر من أربعة عقود من الزمن . يمتحن نظام الأسد بأقسى الوسائل عزيمة الجميع على المثابرة، ويصل بقدرتهم على الاحتمال إلى أقصى الحدود، من دون أن يحصل هؤلاء على أية تنازلات توازي الجهد المبذول والوقت المكرس . لا أحد يحصل على أي شيء ذي أهمية من نظام الأسد، وينطبق هذا الأمر على المسؤولين العرب والدوليين الذين تتطلب مهامهم التفاوض مع دمشق بخصوص كيفية التعامل مع الأزمة التي تعصف بالنظام السياسي .
ظل نظام الأسد يماطل في إعلان خطوات الإصلاح السياسي، ووضع لها أطراً زمنية تمتد شهوراً عديدة، ولم يدخل أياً منها حيز التطبيق حتى الآن . ولذلك فإن الأمر ذاته ينطبق على فئات الشعب السوري بشكل عام، إذ لم يحصل هذا الشعب على أية تنازلات من نظام الحكم طوال السنوات العشر الماضية، ولم يحصل على أية تنازلات يستحقها منذ اندلاع الثورة في هذا العام، وتتجه إرادة نظام بشار الأسد إلى تأكيد أن هذا الشعب لن يحصل على الإصلاحات التي يطلبها إن قدر له البقاء في الحكم في المستقبل . اعتاد نظام الأسد على الفوز في ماراثونات المماطلات المفضية إلى اليأس، ولكنه خسر هذه المرة احترام جميع الدول، خاصة تلك التي تعتبر نفسها صديقة له، بعد أن تأكدت من أن وعود الإصلاح ليست سوى حلقة أخرى من ألاعيب كسب الوقت التي تسبب الضجر والحرج .
الأداة الثالثة التي يوظفها نظام الأسد في التعامل مع أزمته الحادة هي استخدام العنف . تقول بعض التقديرات إن نحو ستة آلاف سوري قد لقوا حتفهم على يد آلة القتل التي يسلطها نظامه من أجل السيطرة على الثورة الشعبية، إضافة إلى عشرات الآلاف من المعتقلين القابعين في السجون . لا يكاد يمر يوم من دون أن يسقط العشرات من القتلى، وقد استمر هذا الحال على مدى الشهور العشرة الماضية .
يستغل النظام الحاكم أداتي الكذب والوقت من أجل أن يمارس أداة العنف الذي يفتك بأرواح المتظاهرين السوريين، وهو يعتبر ضحاياه ثمناً يسيراً ينبغي أن يدفعه الشعب من أجل أن يظل النظام المتهاوي في السلطة . يرفض النظام الحاكم أن يقر بأن حصيلة الثورة المتمثلة في ثلاثمائة يوم وستة آلاف شهيد تكفي من أجل أن يتأكد لديه إصرار الشعب على تحقيق هدف تغيير النظام، ويصرّ على أن يحتفظ بالسلطة على الرغم من استمرار نزيف الشرعية السياسية الذي أصابه في مقتل .
لقد تمادى نظام بشار الأسد في التمسك بالكذب، وهو يجد نفسه الآن عاجزاً عن التراجع عن المغالطات التي روجها، ولا يمكنه الرضوخ بشكل علني أمام ثورة الشعب التي تطالب برحيله . وبالغ هذا النظام أيضاً في تبديد الوقت والفرص التي كانت متاحة أمامه كي يطبق الإصلاحات المطلوبة أو ينسحب بشكل مبكر من الساحة السياسية، ولا يبدو أنه يريد أن يعوض الوقت الذي أهدره أو يسترجع الفرص التي أضاعها . كما أن هذا النظام قد أمعن في اقتراف جرائم القتل والتنكيل تجاه المتظاهرين المسالمين، ولا تتوفر أمامه حالياً أية وسيلة للتكفير عن تجاوزاته ضد أبسط حقوق الحياة الإنسانية .
تضفي أدوات مغالطة الحقائق وتبديد الوقت والعنف القاتل أبعاداً خاصة على تعامل نظام بشار الأسد مع أزمة بقائه السياسي، ولكن هذه الأدوات لا تضيف شيئاً إلى فرص نجاته من السقوط الذي يقترب سريعاً . أية فرصة للنجاة قد يملكها النظام السياسي الذي فقد الصدقية والاحترام والشرعية أمام شعب الدولة وشعوب وحكومات الدول الأخرى؟
* رئيس قسم العلوم السياسية (جامعة الإمارات)
الخليج