نظام الإبادة: من الإبادة السياسية والأخلاقية إلى القتل الجماعي
ياسين الحاج صالح
يعرض تعامل النظام الأسدي مع السوريين الثائرين ميلاً ثابتاً إلى تحطيمهم، وإلى تدمير بيئاتهم وشروط حياتهم فيها. وصل الأمر إلى القتل في حالات جاوزت 18000 خلال 500 يوم من الثورة، والتسبب بنزوح ما يقارب المليونين من السوريين في الداخل و200 ألف في البلدان المجاورة، فضلاً عن أشكال متطرفة في قسوتها وفي عدائيتها من التعذيب.
ما يستخلص من هذه الوقائع المؤكدة هو أن النظام لا يعترف بكيان مَن يعترضون عليه، ويعمل على إباحتهم وتبديد كيانهم بكل ما يستطيع.
في أساس هذا الواقع، النظام الذي بناه حافظ الأسد، وهو يقوم على إبادة السوريين سياسياً وأخلاقياً، ويؤسس لإبادتهم فيزيائيا حين يقتضي الأمر، أي حين يثورون عليه. قد لا يقتل الجميع، لكنه يقتل كثيرين بحيث يفهم الجميع أن القتل قريب منهم، وأن حياتهم استثناء من القتل. ومعلوم أن نظامه قتل عشرات الألوف فعلاً. لكنه أباد جميع السوريين، سياسياً وأخلاقياً.
المقصود بالإبادة السياسية، إنكار الحق في الوجود النشط على أي مجموعات أو توجهات سياسية مستقلة عن النظام. فإن حصل ووجدت، يجري تفكيكها وتحطيمها بالقوة. فإذا دافعت عن وجودها بالقوة، تجري إبادتها جسدياً.
تمتد جذور نهج الإبادة السياسية في الفكر البعثي الذي يقوم على مبدأ ندرة الوطنية، أي أن الناس لا يكونون “وطنيين” إلا إذا طابقوا شروطاً متعددة، تؤول محصلتها إلى جعلهم نسخاً متشابهة من أصل وطني صحيح، هو ما يقرره الحزب، أو في العهد الأسدي، الرئيس. هذا، بينما “الخيانة”، وهي المدخل إلى الإبادة السياسية، وفيرة وسهلة، ويمكن أن نسقط فيها في كل حين، بفعل الغفلة أو السذاجة أو المصلحة أو ضعف النفس. وهذا خلاف ما يفترض أن تكون الحال في أي نزعة وطنية سوية، حيث الناس وطنيون تلقائياً، بينما “الخيانة” هي النادرة، ولا يوصف بها أحد إلا إذا طابق سلوكه شروطاً متعددة، تقررها هيئات مخصوصة (قضاء مستقل…). الجزاء المستحق للخيانة طبعاً هو إباحة الحياة، وإلاّ يكون المرء مديناً بحياته للرئيس الذي “يعفو” عنه.
تؤسس ندرة الوطنية لاحتكار الوطنيين النادرين للسلطة، ومراقبة الجموع المشكوك في وطنيتها والتشدد في معاملتها. معلوم أن الفكر البعثي تشكّل في مناخات تميزت بجاذبية نظم التفكير الشمولية، وكلها تشارك في مبدأ الندرة: ندرة العلم أو ندرة الخير أو ندرة السياسة الصحيحة. تشترك هذه النظم في أنها تنصب حواجز عالية في وجه مشاركة الغير في المعرفة والأخلاق والسياسة، فلا يحوز أحد منها شيئاً إلا إذا اعتنق نظم التفكير تلك وتصرف بمقتضاها. خارجها ليس غير الباطل والانحطاط والفساد والتلوث، وهو ما يبيح تحطيم هذا الخارج، على نحو ما نعلمه في خصوص النظم الشيوعية أيضاً.
حافظ الأسد هو من صنع معادلاً جهازياً لمبدأ ندرة الوطنية البعثي: المخابرات والسجون المخصصة لإبادة “الخونة”. كان سجن تدمير تحديداً معمل الإبادة السياسية للسوريين طوال العقدين الأخيرين من حكم حافظ.
الرهان الجوهري للمخابرات هو ضمان الانكشاف التام للمجتمع السوري، أن يكون أمامها مثل كتاب مفتوح، تعرف عنه كل شيء، وتتحكم بتفاعلاته الداخلية، وتشل كل مقاومة محتملة من طرفه، وتحول دون تطويره أيّ تماسك ذاتي.
لطالما كانت أجهزة المخابرات الإرهابية هي الأداة الفعالة لتفكيك كل مجموعات سياسية مستقلة، بكل ما يقتضيه ذلك من اعتقال وتعذيب وسجن وضغوط مستمرة لسنوات طويلة. وقد نجحت بالفعل في القضاء التام على أحزاب سياسية متعددة، أو ردّتها إلى ما يشبه نبتات صحراوية قزمة، تبقى بالكاد على قيد الحياة بثمن قزامة دائمة.
على أن الإبادة السياسية قد تأخذ شكل تدجين لبعض الأحزاب، لا يلغي وجودها ذاته، لكنه يلغي استقلالها وقدرتها على المبادرة، ويحدد لها سقوفاً واطئة فلا يمكنها العيش تحتها إلا منبطحة. وهذا ما ينطبق على أحزاب “الجبهة الوطنية التقدمية”.
هناك صيغة وسيطة للإبادة السياسة، وتتمثل في ترك بعض الأحزاب “المعارضة” مطلقة السراح، على أن تبيح نفسها للنظام وتنكشف أمامه، ولا تمانعه في شيء، فإن حصل ضربها على يدها (اعتقل أعضاء منها أو ضيّق على حركة زعمائها وأهانهم…). هذا حصل فعلاً لأحزاب يفترض أنها معارضة، وكان مثمراً. فقد تولت هذه الأحزاب إبادة نفسها سياسياً بكفاءة لا بأس بها.
ما وقع للأحزاب وقع ما يماثله لمثقفين ومواطنين أرادوا القيام بأدوار عامة مستقلة.
النتيجة كانت الصمت، أو قول عموميات لا طائل من تحتها، أو الاضطرار للعيش خارج البلد. هل صاروا أحراراً هناك؟ لا قيمة للحرية في غير موطنها، أرض الكفاح من أجلها، ولا فرحة بها إلا كثمرة لهذا الكفاح.
أكثر حتى من الإبادة السياسية، تعرض المجتمع السوري للإبادة الأخلاقية. لا يستطيع سوري واحد التصرف كفاعل أخلاقي في المجال العام، أي أن يطابق سلوكه العلني ما في ضميره من مبادئ. الأساس في ذلك هو الحرمان الجذري من الحرية التي هي أساس المسؤولية الأخلاقية.
في “سوريا الأسد” لم نكن محرومين من الحرية حرماناً بسيطاً فقط، كأن نُمنَع من فعل ما نؤمن به، بل نعاني من حرمان مضاعف، ويُفرَض علينا كثيراً فعل ما لا نؤمن به كي تتيسر مصالحنا المشروعة، بل لمجرد أن ننجو من العقاب أحياناً.
تتكثف الإبادتان السياسية والأخلاقية معاً في حال المعتقلين السياسيين، الذين حرص نظام حافظ كل الحرص على إذلالهم، بحيث لا ينالون حريتهم إلا إذا تخلّوا عن كرامتهم، ولا يصونون شيئاً من كرامتهم إلا في السجن دون حرية. ولا يكاد يكون هناك سوري مرّ على أحد فروع المخابرات الكثيرة، والمجموع يكاد يساوي عدد السوريين البالغين جميعاً، من دون أن يساوم ليصير واشياً مقابل تيسير أموره الشرعية، أو الحصول على امتيازات، أو لمجرد اجتناب عقاب اعتباطي وقاس. تصدر “المساومة” من عقيدة مستقرة، تفيد بوفرة الخيانة، وبأنه يمكن لأي منا يسقط في حبائلها فيصبح عميلاً للعدو، وهو لا ينجو إلا بالتعاون مع المخابرات، أي أن نتحول مخبرين ووشاة بأهلنا وأصدقائنا.
تحويل المواطنين إلى مخبرين هو بمثابة إبادة أخلاقية.
وصناعة للخونة أيضاً. ما الخائن غير من يتجسس على من يثقون به بدافع الخوف أو الطمع؟
لذلك يمكن وصف أجهزة المخابرات السورية بأنها مصانع للخونة، وهذا سبب أكثر من وجيه للتحطيم التام لهذه الأجهزة الإجرامية التي حطمت حياة ما لا يحصى من السوريين.
هنا أيضا ندر أن كان المثقفون ورجال الدين والمواطنون البارزون فاعلين أخلاقيين يقتدى بهم. مثل السياسيين، قلما أمكن للمثقفين “قول الحق في وجه السلطة”، أو التصريح بكلمة “لا” في المجال العام. والنفي أو الاعتراض هو أساس الحرية واستقلال الضمير. حصل أن فعل بعضهم، فكان أن نالهم ما ردع غيرهم. ينبغي القول هنا إن ما أصاب المثقفين متواضع قياسا إلى ما ناله عموم مواطنيهم، وعموم المعارضين السياسيين. غير قليل منهم تطوّع لإبادة نفسه سياسياً (ابتعد عن كل ما هو سياسي)، وفضّل البعض التلون (الأخلاق، أكثر من السياسة، لا تحتمل التلوّن)، أو الخنوع واستبطان أوامر السلطة ونواهيها.
هناك طبعا الهجرة خارج البلد. هل صان المهاجرون ضميرهم هناك؟ الضمير لا يصان إلا في حيث يكون الالتزام الأخلاقي شاقاً، أي في “الوطن”، موطن الإغراءات والخوف. موطن انشراح الصدر أيضاً والفرح الأخلاقي.
ثم أنه طوال عقود كنا نعيش في ظل الخوف والاعتباط. الخوف يقضي على الثقة بين الناس، علما أن تفاعلات الناس في ما بينهم هي مجال السلوك الأخلاقي. أما الاعتباط فيحكم بامتناع التوقع والاحتساب والتخطيط. في مثل هذه الأحوال، لا يمتنع السلوك الأخلاقي وحده، بل يتعذر مجرد التحكم بالنفس والتوجه في العالم. وقد تكون الأشكال الأشد وسواسية من التدين ضرباً من سيطرة وهمية على واقع متفلت، أو من الحاجة إلى تقليد يخفف الانصياع له من القلق والتخلخل النفسي. لعل افتقارنا، عموم غير المتدينين، إلى تقليد حي هو ما يحول دون تشكلنا في نموذج عام قادر على الهيمنة.
هذه الإبادة السياسية والأخلاقية المديدة خفضت من قيمة حياة السوريين، ردّتهم إلى كمّ بشري لا قيمة له، ولا قِيم تحمي حياته، وتالياً لا بأس بإبادته فيزيائياً إذا جُنّ وتمرّد على شروط إعادة إنتاج الإبادة. هذا ما فعله السوريون اليوم، والإبادة الجسدية هي ما يواجههم بها وارث حافظ: إبادة البشر وبيئات الحياة.
الثورة اليوم لا تتمرد على هذه الإبادة الأخيرة، بل على الإبادة السياسية والأخلاقية المؤسِّسة لها. ما يحمي حياة السوريين في سوريا ما بعد الأسدية هو أن يكونوا أحررا مؤهلين لاختيار وعيش ما يرتضون من حياة أخلاقية وحياة سياسية. وما يمكن أن يشكل مساهمة في حماية حياة السوريين من قبل المثقفين هو إظهار أسس الإبادة الفكرية والسياسية. اعتراضنا متهافت على القتل الجماعي لشعبنا بينما نحن نشارك النظام فلسفته السياسة والأخلاقية.
النهار