“نظرة الصمت” عودة إلى حقول القتل/ أمير العمري
يتابع المخرج الأمريكي جوشوا أوبنهايمر الموضوع الذي سبق أن طرقه في فيلمه الوثائقي السابق “فعل القتل” The Act of Killing (2012) الذي حصل على أوسكار أحسن فيلم وثائقي، في فيلمه الجديد “نظرة الصمت” The look of Silence (98 دقيقة) الذي حصل على جائزة لجنة التحكيم الخاصة في مهرجان فينيسيا السينمائي الـ 62، كما حصل على جائزة الاتحاد الدولي لنقاد السينما (الفيبريسي) وجائزة حقوق الانسان، وجوائز أخرى يستحقها الفيلم دون شك.
أوبنهايمر فتح في فيلمه السابق، للمرة الأولى على صعيد السينما، ملف المذابح التي ارتكبت في إندونيسيا في منتصف الستينيات، عقب الانقلاب العسكري الذي قاده الجنرال سوهارتو ضد حكومة الرئيس أحمد سوكارنو، التي راح ضحيتها نحو مليون شخص قيل إنهم من أعضاء الحزب الشيوعي الإندونيسي وغالبيتهم العظمى من المدنيين العزل، واستعانت سلطات الانقلاب العسكري وقتها ببعض العناصر المدنية والعصابات الإجرامية، كونت منها فرقا للقتل كانت تعمل بشكل “مستقل” عن الجيش، وقد ظهر بعض هؤلاء الأفراد في الفيلم السابق وقاموا دون خجل بل وهم يضحكون ويلهون، بإعادة تمثيل أدوارهم أمام الكاميرا، متباهين بما فعلوا، شاعرين بنوع من الحصانة.
أما في فيلمه الجديد “نظرة الصمت” فيفتح أوبنهايمر ملفا آخر يرتبط بالأول، هو ملف الضحايا، وأهالي الضحايا وكيف أمكن لهم العيش في ظلّ كابوس تلك المذابح الوحشية، وكيف يمكن أن يواجهوا اليوم الجلادين أي من كانوا مسؤولين عن ارتكاب تلك الفظائع.
يتابع الفيلم حالة “آدي” Adi وهو فني بصريات يقيم مع زوجته وأطفاله بالقرب من والديه في شمال جزيرة سومطره. إنه شقيق رجل يدعى “راملي” قتل بطريقة وحشية وتم التمثيل بجثته خلال تلك الأحداث. وكان أوبنهايمر قد التقى “آدي” عام 2013 ودرس حالته وأعدّ جيدا لعمل فيلم عنه، لكنه كان ينتظر الوقت المناسب، وقد تمكن أخيرا من استكمال فيلم “نظرة الصمت” الذي يعتبر عملا مستقلا قائما بذاته، وليس استكمال للفيلم السابق الذي حقق أصداء جيدة عند عرضه، ولفت الأنظار الى تلك المذابح التي أهملها التاريخ بل واصبحت من المحظورات التي يتم التكتم عليها وإنكارها في اندونيسيا حتى اليوم.
هذا فيلم عن الخوف: خوف أوبناهايمر من الاقتراب من هذا الموضوع الحساس لما يمكن أن يتعرض له من مخاطر ثم قهره لهذا الخوف، وخوف “آدي” من مواجهة الماضي ثم مواجهة قتلة شقيقه، وخوف والدة آدي “روحاني” التي حاولت الاحتفاظ بصمتها طيلة السنوات الماضية خشية من أن تفقد آدي الذي اعتبرته تعويضا لها عن ابنها القتيل راملي، وخوف الأب الذي أصبح طاعنا في السن يريد أن يقضي ما بقى له من عمر بعيدا عن المشاكل، فهو يهرب من الماضي ويرتدّ إلى الطفولة بعد أن تجاوز المائة عام من عمره. ولكن ها هو “آدي” يتشجّع ويخوض غمار هذه المغامرة مع المخرج أوبنهايمر من أجل مواجهة القتلة والتحدث إليهم مباشرة، لكي يكسر بذلك للمرة الأولى، حاجز الصمت الطويل.
يركز أوبنهايمر في الجزء الأول من الفيلم على تقديم شخصياته كما يقدم خلفية تاريخية للوقائع، ثم الطرح المضاد للأحداث العنيفة الدامية من وجهة النظر الرسمية حينما نرى المعلم في المدرسة التي يدرس فيها أحد ابناء “أدي”، وهو يقول للتلاميذ كيف أن القتل كان عملا جيدا له أسباه المبررة، ويقول للمخرج إن القتل كان في صالح الذين قتلوا فقد حماهم من أنفسهم، بل ويصحب المخرج أيضا محاولا أن يقدمه إلى من يقول له إنه من أقارب أحد ضحايا تلك الفترة وإنه يقر الآن بأن ما حدث كان في صالحهم!
يجري المخرج عددا من المقابلات مع بعض أعضاء فرق الاغتيال ومن كانوا يقومون بتعذيب الضحايا، ويذهب لعرض هذه المقابلات على شاشة تليفزيون أمام بطله “آدي” Adi راصدا رد فعله، ثم يركز على حالة شقيقه راملي التي تختصر ما وقع من إبادة جماعية في تلك الفترة، ويصحب أوبنهايمر آدي لكي يعثر على القتلة ممن لايزالون على قيد الحياة، ويتستر “آدي” في ثياب مهنته، فيبدو كما لو كان قد جاء لزيارتهم في منازلهم بهدف فحص أبصارهم، وتقديم ما يلزم من نظارات طبية لهم.
من بين القتلة الذين يواجههم آدي أخيرا أحد رجال القانون والمشرعين البارزين في البلاد، وشخص آخر من الأعيان يتمتع بالاحترام من قبل الجميع، وقريب له من العائلة. هنا لا تصبح المواجهة فقط حول الماضي بل عن الحاضر، عن كيفية التعايش مع أولئك الذين قتلوا شقيقه، وها هم يهددون بشكل ما قائلين إن كما حدث قد يعود للحدوث مرة أخرى، ويلعبون بالتالي على فكرة الخوف كلما تناول فكرة الشعور بـ “الذنب” ووزر ما حدث. يتطلع إليهم “آدي” محاولا في غمرة تساؤلاته المُعذّبة، معرفة حقيقة مشاعرهم الآن، كيف أمكنهم التعايش مع ما الماضي، وهل هناك أي شعور بالذنب يعتريهم، لكنه يطمئنهم بقوله إنه لم يأت لكي يحاسبهم بل فقط من أجل الاستماع الى الحقيقة.. فما حدث قد حدث، وقضي الأمر.
حوارات آدي مع “المجرمين” تتم في نعومة وسلاسة ولكن في إصرار، بينما يقوم هو بتركيب نظارات فحص البصر وتغيير العدسات، وكأنه يفتح مجالا أفضل للرؤية أمامهم، لكي ينظروا إلى الحقائق بمنظار جديد، غير أنه لا يتمكن أبدا من الحصول على ما كان ينشده.
وعندما يواجه آدي إبنة أحد القتلة بما فعله والدها الذي شرب من دم القتيل تشفيا ومغالاة في الانتقام وهو سلوك ليس من الممكن فهمه أو تبريره اليوم، تتأثر المرأة لكنها تحاول العثور على مبرر فتقول إنه ربما يكون قد فعل هذا لكي لا يفقد عقله.. ولكنها في الوقت نفسه لا تستطيع أن تحجب دموعها، ويتعانق الاثنان في لفتة إنسانية تشي بالاعتذار من طرف المرأة، والغفران من طرف آدي، بل إنه أيضا شجاعة معانقة القاتل المُسنّ نفسه. لقد انتهت الآن “نظرة الصمت”.