شمس الدين الكيلانيصفحات الرأي

نظرة النُّخب السورية الى لبنان في زمن البعث/ شمس الدين الكيلاني


رغم اختلاف قواعد التوازنات الاجتماعية الكبرى في كلا البلدين، فإن مدونة حياتهما السياسية ظلَّت متماثلة: حريات عامة، سياسية وثقافية وصحافية، في عالم برلماني مفتوح على الحوار والتنوع، وبقيت الصلات بين نخب البلدين، حاكمة ومحكومة منفتحة، فرياض الصلح وبشارة الخوري كانا يجدان ما يماثلهما، في دمشق وحلب، في المنبت والثقافة والميول، مثل القوتلي والكيخيا مروراً بخالد العظم، وفارس الخوري. ما لبث الوضع أن انقلب برمته فور دخول سوريا، في حقبة حكم الثكنة للمدينة، إثر انقلاب 8 آذار واحتكار البعث للسلطة. غابت معه النخب الليبرالية السورية، عن المسرح السياسي، وهي التي عرفتها النخبة اللبنانية الحاكمة واعتادت التعامل معها، وليُعلَن عن ميلاد مرحلة جديدة في تاريخ سوريا وفي تاريخ العلاقة بين البلدين، سيطرت عليها نخب جديدة ذات ملامح متصلبة، وجمل قاطعة.

انقطاع لغة التخاطب1963م – 1971م:

بقيت سلطة البعث حذرة من المناخ اللبناني الحر، لا تجد اللغة المشتركة التي يمكن أن تتحدث بها مع النخبة الحاكمة اللبنانية، فهي ليست عندها سوى برجوازية ليبرالية مرتبطة بالإمبريالية، وتميل في ظل هيمنة القاهرة على النظام العربي، إلى إعطاء الأرجحية لعلاقتها مع عبدالناصر، وهو المنافس الأخطر للبعث. كما وجدت الأبواب موصدة أمام علاقاتها مع ما سُمِّي بالقوى الوطنية والإسلامية التي كانت ترى في القاهرة المرجع الوحيد للعروبة آنئذٍ. من هنا ذهب الفرقاء اللبنانيون إلى عبدالناصر، وليس إلى دمشق، لتوقيع اتفاقية القاهرة.

حينها باتت النخب المعارضة تنظر إلى ديموقراطية بيروت كملجأ، بينما ضاق الحاكمون بها ذرعاً، أما النخب البرجوازية الليبرالية فباتت ترى في بيروت حلمها الذي ضاع، أو ضيعته في دمشق. وقد علَّمت خبرة الأيام المثقف السوري قيمة المتنفس الثقافي اللبناني الحر، حينما افتقد في بلده حرية التعبير، وضاقت أمامه مساحة النشر، التي تقلصت في بلده من عشرات الصحف والمجلات في أيام العز، إلى صحيفتين لهما صوت واحد، فسمع العرب عبر النافذة البيروتية صوت: الياس مرقص، وياسين الحافظ، وجورج طرابيشي، ومطاع صفدي، وبرهان غليون، وغيرهم.

التدخُّل في(الساحة اللبنانية):

استلم الأسد السلطة عام 1970، في ظروف مواتية، أزاح القيادة اليسراوية، فاستطاع جذب بعض (القوى التقدمية) إلى (الجبهة الوطنية التقدمية) تحت قيادته، وخاض بالتنسيق مع القاهرة حرب تشرين، ووثّق علاقاته مع الاتحاد السوفياتي على قاعدة قبوله التسوية، ثم أتيح له ملء الفراغ الإقليمي، الذي خلَّفه غياب مصر في زمن السادات، وانشغال العراق في الحرب مع إيران، فتعاظمت علاقة السلطة السورية بالقوى اللبنانية والفلسطينية في (الساحة اللبنانية)، إلى أن احتلت موقع مصر الناصرية في لبنان. أما النخب السياسية القومية واليسارية السورية، فكانت تنظر إلى لبنان على ضوء ما يوفره من مناخ مساعد لحركة المقاومة الفلسطينية. لهذا فقد استقبلت هذه النخب والأغلبية الشعبية بالسلبية والمرارة، دخول الجيش السوري إلى لبنان، عندما بدا لها أن هذا التدخل يُضعف المقاومة الفلسطينية، و(الحركة الوطنية اللبنانية). فانقسمت البلاد بدلالة هذا الحدث الكبير، وقفت السلطة في طرف والأكثرية الشعبية في موقع مغاير. وقد عبَّر المثقفون السوريون آنئذٍ في بيان لهم عن احتجاجهم على هذا التدخل، كما أصدر الحزب الشيوعي – المكتب السياسي، وحزب الاتحاد الاشتراكي العربي (د. جمال الأتاسي) موقفاً معارضاً لهذا التدخل، لأنه لا يخدم القضية العربية، ولا النضال الفلسطيني، ولن يعزز وحدة اللبنانيين. أما عن تأثير ذلك على النظام الديموقراطي واستقلال لبنان، فلم يكونا سوى فرعاً صغيراً من اهتمام هذه النخبة.

لكن وحده ياسين الحافظ – ومعه قلة من المثقفين السوريين – أدرك مسؤولية ما يسميه الانقسامات الاجتماعية العمودية في إثارة الحرب الأهلية اللبنانية، وأدرك حجم الخسارة التي ستصيب الحياة العربية، إن فقدت نافذة الحرية في بيروت. أما الليبراليون السوريون الذين كاد ذكرهم ينطفئ، فلم يروا في ما يجري في لبنان، إلاَّ تكراراً أكثر مأسوية، لما جرى في بلدهم سابقاً من عسكرة الحياة السياسية، وانطفاء السياسة كمشاركة حرة في الشأن العام.

تحولات في النظرة:

بقيت المشكلات التي طرحها الوجود السوري في لبنان في مرمى نظر النخب السياسية السورية، مع حدوث تحولات في مواقفها إثر انحيازها للديموقراطية، فإن الجماعات التي عبرت عن نفسها تحت يافطة (التجمع الوطني الديموقراطي) وضمت ناصريين وماركسيين، أعلنت عن برنامج ديموقراطي عام 1980م، يقوم على اعتماد أسس النظام الديموقراطي البرلماني في بلدهم، وأعربت عن عدم رضاها على طريقة تعاطي السلطات السورية في الشأن اللبناني، حيث رأوا أنها لعبت على التوازنات الاجتماعية والطائفية لتستديم الطلب على بقائها من جهة، واعتمدت على الحلول الأمنية، فزادت من تمزق الاجتماع اللبناني، وأضعفت الحياة الديموقراطية فيه. وخلصت إلى قراءة جديدة للحرب اللبنانية، اعتبرت أن أهدافها الرئيسية ضرب نظامها الديموقراطي، “فالشكل اللبناني للديموقراطية أخاف الحكام العرب من أن تمتد جرثومته إلى أقطارهم وشعوبهم”.

على الرغم من حالة الانطفاء التي واجهت الحياة السياسية السورية، في ظل محنة الثمانينات، فإن النخب السياسية السورية لم تكف عن التعبير عن وجهة نظرها تجاه ما يجري في لبنان، فعبرت عن ارتياحها لعودة دورة الحياة الطبيعية بعد مؤتمر الطائف، على طريق استرجاع لبنان لعافيته ولحياته الديموقراطية، والتعايش عبر إحياء مؤسساته السياسية الشرعية، رغم ما يشوب كل ذلك من نواقص، ولا سيما في ما يخص الحضور السوري الكثيف في الشأن اللبناني. ولم تعد تشكك هذه القوى لا في خطابها السياسي، أو في لا شعورها في شرعية الكيان اللبناني، بينما امتلأ خطاب السلطة بالإشارات المتناقضة حول شرعية هذا الكيان.

مع العهد الجديد:

تجدَّد اهتمام النخب السورية المعارضة بالشأن اللبناني مع الانتعاش النسبي للحياة السياسية والثقافية السورية آنئذٍ في بداية العهد الجديد، يوجُّهها إدراك متزايد بتعاظم ترابط المسألة الديموقراطية في البلدين. لكن آمال السوريين في الإصلاح الداخلي، وفي تصحيح العلاقة مع لبنان على قاعدة الاستقلال والاحترام المتبادلين، ما لبثت أن تبدَّدت، مع استعادة الدولة الأمنية لعملها، في الداخل وفي العلاقة بلبنان. وبلغ هذا المنطق ذروة انفضاحه، بمناسبة التمديد للرئيس لحود. لهذا لم تتفاجأ المعارضة السورية بتعالي أصوات اللبنانيين المطالبة برحيل القوات السورية، على إثر اغتيال الرئيس رفيق الحريري، وراقبت بإعجاب خروج اللبنانيين من رماد الألم بثورتهم المخملية نحو الحلم بالحرية، فكان لصرخة الحرية في بيروت صداها الطيب لديهم.

ولقد حرص المثقفون السوريون المعارضون على النأي بأنفسهم عن ممارسات السلطة تجاه لبنان، وأصدروا بياناً أعربوا فيه عن تأييدهم لمطالب اللبنانيين، في رحيل قواتها من لبنان، كما أصدرت المعارضة ممثلة بـ(التجمع الوطني الديموقراطي) بياناً إلى الشعب في 15 شباط. جاء فيه” إن تلك الجرائم ما كان لها أن تنجح لو أن العلاقات اللبنانية – السورية صحيحة، وصحِّية، مبنية على أساس الاحترام المتبادل والعلاقة المتكافئة، من دون تدخل في الشؤون الداخلية”، بينما عمل أنصار السلطة على نشر نزعة شوفينية سورية في وجه اللبنانيين!

وقد أطلق (التجمع الوطني) والعشرات من القوى والشخصيات في تشرين الأول 2005 (إعلان دمشق)، دعوا فيه إلى “تصحيح العلاقة مع لبنان، لتقوم على أسس الحرية والاستقلال والسيادة والمصالح المشتركة بين الشعبين والدولتين”. ولعل هذا التوجه شكَّل قاسماً مشتركاً للنخب السورية المعارضة، وقد عبَّر عن هذا التوجه المثقفون السوريون الذين وقعوا مع مثقفين لبنانيين على إعلان بيروت – دمشق لتصحيح العلاقة السورية اللبنانية، فكان جزاؤهم الاعتقال! وقد أطلق الحراك الشعبي الراهن العديد من الشعارات التي تدعو لخلاص الشعبين، اللبناني والسوري من هيمنة النهج الأمني للسلطة السورية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى