نظرة من خارج إلى الأزمة السورية
ياسين الحاج صالح
تعرض هذه المقالة جوانب من تقرير صدر حديثاً بالانكليزية عن المجموعة الدولية لدراسة الأزمات عن الأزمة السورية، عنوانه: «مياه مجهولة: تفكير في ديناميات الأوضاع السورية». الغرض أن نرى أوضاعنا من خارجها وفي مرآة أقل انفعالاً. يبرز التقرير خمس قضايا غائبة عن النقاش العام، يرجح أن يكون لها تأثير كبير على تطور الأحداث في سورية.
القضية الأولى تتصل بالمسألة العلوية، وفق تعبير التقرير، الذي يقول إن النظام جعل من العلويين رهائن له، رابطاً مصيرهم بمصيره. وقد فعل ذلك عمداً وبوعي كامل، بغرض ضمان ولاء الأجهزة الأمنية، علماً أن هذه ليست فرقاً نخبوية متمتعة بالامتيازات، بل هي مكونة أساساً من علويين أجورهم متدنية وأعباؤهم كبيرة، يتحدرون من قرى تركها النظام في حال بائسة. وبغرض إثارة الخوف، وزعت السلطات أسلحة وأكياساً من الرمل تستخدم في التحصينات على قرى علوية في وقت باكر، وقبل وجود أي خطر موضوعي. وإلى ذلك، قامت بنشر قصص مروعة، مبالغ فيها أو مخترعة بالكامل، عن أعمال بربرية مزعومة يقوم بها المحتجون.
وبينما يؤكد التقرير أن النظام كان أكثر طائفية بلا جدال من الاحتجاجات، وأنه يتحمل المسؤولية عن تفاقم واستغلال المشاعر الطائفية، يشير إلى أن قاعدة النظام اليوم أضيق إلا أنها تزداد راديكالية وتماسكاً حول نواة صلبة مكونة من العائلة الحاكمة، ومن موالين ازداد عزمهم على القتال بقدر ما اشتد تورطهم في القمع الوحشي طوال شهور. فإذا فقد النظام سيطرته على العاصمة فسيتراجع الموالون المتشددون إلى قراهم للدفاع عن أسرهم التي أعيدت منذ وقت طويل إلى الريف لحمايتها.
والقضية الثانية هي المسألة اللبنانية. يوضح التقرير أن التطلع الدولي إلى زوال النظام لا يصدر عن الأسباب الإنسانية وحدها، وإنما هو يتصل أيضاً برغبة قوى دولية وإقليمية نافذة في عزل إيران وإعطاب «حزب الله». هذا الأخير لم يساعد نفسه حين قدم دعماً أعمى للنظام السوري، بينما هو يحامي عن الانتفاضة البحرينية، الشيعية أساساً. لقد ظهر بذلك كتنظيم مغرق في الطائفية، وبدد التعاطف الكبير الذي كان حظي به بين أوساط الرأي العام العربي. وكان حسن نصر الله مضى إلى حد نعت كل سوري لا يكتفي بحزمة الإصلاحات الأسدية الهزيلة بأنه عدو وعميل لإسرائيل. والمشكلة إنه إذا انهار النظام السوري، يمكن لأي شيء يعتبره «حزب الله» موجهاً ضده أن يطلق شرارة مواجهة أهلية دموية في لبنان. وسيكون لعباً بالنار أيضاً إذا استغل خصوم «حزب الله» اللبنانيون تداعي النظام السوري لنيل مكاسب محلية. إن جرى ذلك فسوف يخسر الجميع، الشعب اللبناني أولاً، لكنْ سيتأذى أيضاً الانتقال السوري من تفجر أزمة كبيرة على الحدود.
القضية الثالثة تتصل بالتدويل المحتمل للأزمة السورية. وهنا يلحظ التقرير تنامي الدعم الداخلي في سورية للتدخل الدولي، وهو تطور لافت جداً بالنظر إلى الارتياب السوري الأسطوري بالتدخلات الخارجية، ويرى فيه مؤشراً على عمق يأس الشعب من مخارج أخرى. لكن مفاعيل التدخل ستكون ممزِّقة في سورية بفعل نزاعها الطويل مع إسرائيل وروابطها الأمنية القوية مع إيران و «حزب الله»، وهشاشة مؤسساتها، وتكوينها الإثني والطائفي المعقد، وتشابكها العميق مع جيرانها العرب ومع تركيا ودول الخليج. وكلما كانت سورية أكثر تعرضاً للتدخل الخارجي قبل حدوث الانتقال السياسي كان محتملاً أن تصبح ساحة للتدخلات الأجنبية بعد الانتقال. وباختصار، لا يتمثل التحدي الحقيقي في اجتذاب اللاعبين الخارجيين بل بالأحرى في اجتنابهم.
القضية الرابعة تتمثل في عسكرة حركة المعارضة. في هذا الصدد هناك مناطق في حمص وحماة وإدلب لم يعد فيها وجود للجيش الموالي، ويبدو أن مناطق في دير الزور ودرعا سائرة على الدرب نفسه. ويرى التقرير أن هناك دلائل متزايدة على انتشار الفوضى والانتقامات الطائفية، وسط سورية بخاصة. وفي فراغ القوة الناشئ، يمكن لمقاتلين أصوليين أو أتباع لهذا الطرف الخارجي أو ذاك أن يدخلوا المعمعان.
القضية الخامسة تتصل بتنخّر الدولة أو تحللها. فالنظام تلاعب بالتمايزات الاجتماعية الثقافية، وعرّض الجماعة العلوية للخطر من أجل الاحتفاظ بسلطته، ولعب ورقة الأقليات ضد الأكثرية السنية، وأفلت قواته الأمنية ضد المحتجين العزل، وغطى على سلوك تلك القوات الطائفي، واستأجر مجرمين (الشبيحة) كي يقوموا بعمله القذر، وتعامى عن أعمال إجرامية قامت بها قواته النظامية، منها السرقة والخطف وتهريب الأسلحة. ولطالما وفر الحصانة للفساد وسوء الإدارة وانعدام الكفاءة حين تخدم تلك الممارسات مصالح العائلة الحاكمة. والنتيجة هي تآكل الدولة والمؤسسات الاجتماعية. وبينما تلوح في الأفق أزمة اقتصادية كبرى، فإن من المؤكد أن يستنزف النظام خزائن الدولة لدعم فرص بقائه. ولا يستبعد التقرير أن يظهر السوريون كثيراً من الصبر وضبط النفس أثناء مرحل الانتقال السياسي، إلا أنهم سيواجهون تحديات أشق من تلك التي عرضت للتوانسة والمصريين.
في فقرة ختامية، يرى التقرير وجوب إبقاء باب التفاوض مفتوحاً، ويستحسن إصرار المبادرة العربية على أن يكف النظام عن مهاجمة المحتجين السلميين، وإن رأى أن ذلك بالضبط هو ما يخشاه النظام، وما لن يرضى به بحال. ويرى أيضاً أن كل تدخل عسكري خارجي، بما في ذلك الحظر الجوي والمناطق العازلة، ساذج وغير مسؤول، وسيوفر ذرائع لمزيد من تدخل أصدقاء النظام، من دون أن يغير جدياً في الوضع على الأرض، علماً أنه وضع يتمتع فيه «الجيش الحر» بحرية مناورة كبيرة وسط سورية وشمالها.
ويقدر التقرير أن صدور قرار من مجلس الأمن بوقف العنف ونشر مراقبين على الأرض لا يزال مهماً وإن يكن صعباً. ويلح على وجوب محاسبة كل من انتهكوا حقوق الإنسان وارتكبوا جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، بما في ذلك أمام محكمة الجنايات الدولية. ويبرز المفارقة الساخرة المتمثلة في وجوب توفير حماية فعالة للعلويين من النوع الذي لطالما أنكره النظام على حركة الاحتجاج. ففرص نجاح الانتقال السوري تتأذى بشدة إذا تعرض العلويون لمجازر أو أعمال انتقام جماعية. وسيكون مهماً إرسال مراقبين حقوقيين محليين أو دوليين إلى المناطق التي قد تتعرض لتهديد كهذا.
وأخيراً يزكي التقرير وجوب منح قيادة النظام العدالة التي ضنت بها على شعبها، وأن يجري توقيف المعنيين وحمايتهم ومحاكمتهم، لأن من شأن تعرضهم لمصير القذافي أن يلهب الأهواء الطائفية ويعرض الانتقال السياسي لأشد المخاطر.
يمكن تحميل التقرير المذكور كاملا من الرابط التالي