نظرة نقدية لأداء الإعلام العربي في ظل الثورات العربية
الربيع العربي: فشل الإعلام في امتحان المصداقية
يرى الخبير الاعلامي موسى برهومة أن أزمة الإعلام العربي الراهنة تعبر في بعض وجوهها عن نزعات تطرف وغلو لا يمكن مقاومتها إلّا عبر بناء ثقافة ديمقراطية تتولاها قوى مدنية حقيقية وتيارات متنورة تؤمن بالاختلاف والتعددية والشراكة الاجتماعية في صناعة القرار، كما تؤمن بأولية حقوق الإنسان الأساسية، وتمتلك عقولاً منفتحة على المنجز الحضاري.
لئن كانت ثورات “الربيع العربي” قد أسقطت أنظمة عاتية، وأطاحت زعماء ربضوا على صدور شعوبهم عقوداً طويلة ومريرة، فإنه في المقابل كشف عن شرخ عميق في بنية الإعلام العربي الذي أطلق رصاصة الرحمة على نزاهته، بعدما فشل في امتحان المصداقية، وأعلن براءته من القيم المهنية والأخلاقية.
ونقصد بالإعلام، هاهنا، وسائلَ الميديا المعروفة من مقروءة ومسموعة ومرئية، حكومية، وشبه حكومية، ومستقلة، ورقية، وإلكترونية، فضلاً عن مواقع التواصل الاجتماعي التي استُخدمت تقنياتها، وبخاصة “اليوتيوب” في دعم الحجج، وتوثيق “أرقام الحشود” زيادة ونقصاناً، ما دفع إلى إطلاق مصطلح جديد هو “ثورة الفوتوشوب” التي تعني القدرة التقنية على تزييف الحقائق، تبعاً للحالة السياسية، وتقديم إعلام حسب الطلب!
وازدادت هذه الوتيرة مع تحولات الثورة في سورية، إلى أن وصلت ذروتها غير المسبوقة في الإعلام العربي في لحظة ما يعرف بـ”الإنقلاب على الشرعية” في مصر. لقد وفّر “الزلزال” الذي عصف بمصر، ذرائع كثيفة و”مقنعة” لكلا الطرفين المنقسمين عاموياً، المؤازرين لما حدث والمعارضين له، سواء في مصر أم خارجها. ويحق أن نقول إن الالتباس غمر المشهدَ، حتى إن المراقب لم يعد يحوز يقيناً صافياً يستطيع الركون إليه، وبالتالي تشكيل رأي باتّ وقاطع فيما جرى، إن أراد أن يتحلى بقدر من الموضوعية والنزاهة.
الذرائعية سيدة الموقف
الربيع العربي فشل الإعلام في امتحان المصداقية
أزمة الإعلام العربي الراهنة تعبر في بعض وجوهها عن نزعات التطرف والغلو. لكن الخاسر الأكبر في لعبة الاستقطاب الفظيعة هذه كانت الحقيقة التي جرى التضحية بها لمصلحة اصطفافات سياسية كان الإعلام مجالها الحيوي ورافعتها الأساسية.
كانت الذرائعية، وما تزال حتى هذه اللحظة، سيدة الموقف، وهي أقرب إلى مفهوم المفكر الأمريكي وليم جيمس الذي جهر بأن الفكرة الصحيحة هي التي يمكن إثباتها، مع الإقرار بأن الحقيقة عرضة للتغيّر، لكنه، رغم ذلك ينبّه إلى أمر مهم، وهو أننا نستطيع أن نجعل الأفكار صحيحة من خلال أفعالنا، وكأنه يحيل إلى براجماتية من نوع ما.
ولعل هذا ما جرى في مصر، إذ أضحى لـ “القبض” على الحقيقة وجهان يحوزان درجة كافية من الإقناع، فأنصار الرئيس “المعزول” محمد مرسي ينظرون إلى ما جرى باعتباره “انقلاباً عسكرياً” لا نقاش فيه، دبّرته مؤسسة الجيش، بمعاونة أطراف في الداخل والخارج، للقضاء على حكم الإخوان المسلمين الذين وصلوا إلى سدة الرئاسة من خلال انتخابات حرة ونزيهة وديمقراطية.
بيْد أن المناوئين للرئيس “المعزول” وجماعته يمتلكون حجة مقابلة لا تقلّ قوة وإقناعاً عن حجة الفريق الأول، فهم يعتقدون أن “الانقلاب” ليس عسكرياً، وإنما “خلع” تمّ بإرادة شعبية، بعد أن خرج المصريون إلى الشوارع والميادين في 30 يونيو، ونزعوا ثقتهم بالرئيس، وبالتالي سحبوا الشرعية منه، لأنه في نظرهم لم يكن أهلاً للمسؤولية، ولا جديراً بالثقة، وقاد البلاد بعقلية الحزبي الإخواني، وليس بروح القائد العام لجموع المصريين على اختلاف انتماءاتهم وتنوعاتهم.
ولعل الخاسر الأكبر في لعبة الاستقطاب الفظيعة هذه كانت الحقيقة التي جرى التضحية بها لمصلحة اصطفافات سياسية كان الإعلام مجالها الحيوي ورافعتها الأساسية.
الإعلام المصري بوق للعسكر
لقد وقع الإعلام المصري، في غالبيته، في وهدة احتقار العقل، والهزء بالذائقة، وعدم التحلي بالحدود الدنيا من المعايير المهنية التي يتعين أن تحكم حركية الإعلام وتضبطها. ومن المفارقات أن القاعدة الذهبية وسط هذه المعمعة هي أن من يملك أكبر قدرة على تشويه الحقيقة لخدمة أغراضه ومآربه السياسية، هو المسيطر، وربما المنتصر، لكنه انتصار مشبع بروائح الهزيمة!
لقد أعادت أزمة الإعلام العربي وزيرَ الدعاية السياسية في العهد الهتلري جوزيف غوبلز إلى المسرح بقوة، وأحيته من جديد، وصار يُلاحظ ظله الكثيف في مختلف وسائل الإعلام التي دخلت لعبة الاستقطاب السياسي في مصر، سواء أكانت مصرية أم عربية أم عالمية، ولم تنجُ بعض وسائل الإعلام الدولية العريقة من التورّط في لعبة الانحياز، وخيانة الحياد والموضوعية.
ولم تتوقف النزعة “الغوبلزية” عند حدود الكذب والتزييف فقط، بل اندفع بعض “الإعلاميين” المصريين إلى شتم شعوب بأكملها، لأن نفراً منها أيّد طرفاً دون سواه، فقرأنا وشاهدنا في بعض وسائل الإعلام المصرية تحريضاً غريباً ضد الشعبين الفلسطيني والسوري، وأصغينا بدهشة مؤلمة لمن يحيّي الجيش الإسرائيلي لأنه يقتل الفلسطينيين، لأن “الناس ذي لازم تنتهي تماما، الشعب دا يستحق فعلا ما جرى له عبر العقود الماضية”، كما سمعنا ثناءً على جيش الاحتلال الإسرائيلي: “دا حقك يا خواجة يا ابن العم”!!
إن تحية جيش العدو يعكس حالة انفصامية لشخصية تعاني من مركبات قهر وكراهية ورغبة، ليس في نقد الآخر وبيان تهافت خطابه، بل ونفيه، على أمل التخلص “البيولوجي” منه نهائياً. ويجب التذكير بأنه هذا الإعلام يبث عبر الأثير الرسمي، أو بالطرق القانونية ويشاهده الكثيرون، ما يعني أن هذا الأمر يحظى بالرعاية الرسمية، بل والرعاية الدينية، إذ إن المؤسسة الدينية لم تسلم من لعبة الاستقطاب هذه، ففي حين بارك الأزهر والكنيسة القبطية ما جرى في مصر، باعتباره “أهون الشرّين”، نجد رئيس الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين الشيخ يوسف القرضاوي يصدر فتوى تدعو المصريين إلى مناصرة مرسي، معتبراً أن “تدخل الجيش لعزل مرسي ينافي الديمقراطية والدستور”.
تغييب المعايير القيمية والاعتبارات الأخلاقية والضوابط المهنية
يرى موسى برهومة، أستاذ الإعلام في الجامعة الأمريكية في دبي، أنه حتى يتحقق للإعلام دوره المنشود، يتعين الكفّ عن ممارسة عقلية الوصاية والهيمنة والإيعاز، لأن مثل هذه التدخلات والاقتحامات تُفقد الإعلام دوره، وتحرمه من الحرية والاستقلالية.
لقد اختلطت الأوراق حتى أمسى الحديث عن المعايير القيمية والاعتبارات الأخلاقية والضوابط المهنية أشبه بالترف وتزجية الوقت، لأن الحالة تفاقمت حتى “اتسع الفتق على الراتق”، لاسيما وأن الكل لديه ميثاق “شرفه” الإعلامي، والكل يحوز في أدبياته مدونات سلوكية للتعامل المهني، والكل يحرص على الترديد الببغائي لأكذوبة “الرأي والرأي الآخر”، لكنّ من هذا الكل نفر قليل جداً من يخلص لشعاراته ويلتزم بها، ويبدي ولاءاً لها.
ورب قائل يدعو في غمرة هذا العماء الطامّ والعام إلى “ربيع عربي” جديد يعصف بالإعلام، ويعيد للحقيقة شرفها المهدور، ويؤسس قيماً جديدة لدور الإعلام باعتباره رافعة أساسية من روافع الإصلاح والتغيير، وموجّهاً أساسياً ينير خريطة الطريق أمام تطلعات الشعوب.
وحتى يتحقق للإعلام هذا الدور المنشود، يتعين الكفّ عن ممارسة عقلية الوصاية والهيمنة والإيعاز، لأن مثل هذه التدخلات والاقتحامات تُفقد الإعلام دوره، وتحرمه من الحرية والاستقلالية، ما يؤدي إلى شلل قدرته على النقد والمراقبة والمحاسبة، وحماية المجتمع من الاستبداد وتغوّل السلطات مهما كانت مرجعياتها.
إن أعوام الربيع العربي الماضية، وما حملته من مآس وبهجات ومفاجآت، تجعل من الضروري، تأسيس لغة مفاهيمية جديدة، بمرجعيات ثقافية وفكرية، وبأفق تنويري، كيلا نقع مرة أخرى في خنادق الاستقطاب القصوى التي تصادر على العقل، وتستهين بالمنطق، وتشوّه الذوق، وتجرّ المجتمع إلى التحزّبات الضيقة التي تبدّد التسامح، وتشيع أجواء الكراهية، وربما الاحتراب الذي يهدّد السلم الأهلي.
إن أزمة الإعلام العربي الراهنة تعبر في بعض وجوهها عن نزعات التطرف والغلو، وهذه لا يمكن مقاومتها إلّا عبر بناء ثقافة ديمقراطية تتولاها قوى مدنية حقيقية وتيارات متنورة تؤمن بالاختلاف والتعددية والشراكة الاجتماعية في صناعة القرار، كما تؤمن بحقوق المرأة والطفل، وحقوق الأقليات، وتمتلك عقولاً منفتحة على المنجز الحضاري.
الانهيار الحادث والمستمر الآن في الإعلام العربي له أسباب تحرّكها نزوعات سياسية مباشرة، لكن هذا الانهيار، يكشف، في بعده الأعمق، عن معضلة ثقافية مركّبة تحتاج إلى حفر معرفي في طبقات لاوعيها من أجل وعيها والسيطرة عليها، وبالتالي الانشقاق عنها. وهذه ليست مهمة الإعلاميين وحدهم.
موسى برهومة
حقوق النشر: موقع قنطرة 2013
موسى برهومة أستاذ الإعلام في الجامعة الأمريكية في دبي