نعم للتجدد الحضاري.. لكن أين يبدأ وكيف؟/ كرم الحلو
انطلاقاً من إيمان عميق بالعروبة، واعتراف بكبوتها في الزمن الراهن، عكف «مركز دراسات الوحدة العربية» منذ الثمانينيات، على صوغ مشروع نهضوي عربي يرد على معضلات الاحتلال والتجزئة والتخلف والاستبداد، ويهدف الى التجدد الحضاري والوحدة والتنمية المستقلة والعدالة الاجتماعية والديموقراطية.
المشروع الذي أبصر النور في العام 2010 لا يزال موضع نقاش ومراجعة في أوساط الفكر القومي، يمثل «قراءات في المشروع النهضوي العربي» مركز دراسات الوحدة العربية 2016 جهداً بحثياً في أطروحاته، وحواراً بين تيارات فكرية، قومية، إسلامية، ليبرالية، تطلعت من خلاله الى رؤية مشتركة الى النهضة العربية.
خلص المشروع وفق أحمد يوسف أحمد إلى أن الوحدة العربية هدف للأمة بمعظم طبقاتها وفئاتها، وبمعظم أحزابها ونقاباتها وجمعياتها وتياراتها الفكرية، وإلى أن العمل الوحدوي يجب أن يتصالح مع الدولة القُطرية ككيان واقعي، كما أن الديموقراطية هي الطريق المضمونة للنهضة، إذ تقدم قاعدة لحل مسألة الاندماج الاجتماعي وإخراج المرأة من هامشيتها، وهي بذلك تمهد السبيل إلى إرساء العدالة الاجتماعية عبر الحد من الاستقطاب الطبقي. إلا أن الديموقراطية لا يمكن تحقيقها من دون الاستقلال الوطني والقومي وتحرير الأرض العربية.
المبادئ والأفكار والأطروحات التي جاء بها «المشروع النهضوي العربي» الذي استغرق إنجازه عقدين من الزمن، تصدى لها بالنقد والمراجعة باحثون عرب، حيث رأى زياد حافظ أن التجرد الحضاري الذي دعا إليه المشروع، يوجب عند القومي العربي مراجعة المفاهيم المقتبسة من الثقافة الغربية، والتي تم تعريبها من دون تدقيق وتفكيك وإعادة إنتاج. ومن هذه المفاهيم والمصطلحات، مصطلحات الديموقراطية والحرية والتنمية المستدامة والدولة. فالديموقراطية لها شروط للتطبيق لم يتنبّه لها المثقفون العرب، وهي غير موجودة في مجتمعاتنا المبنية على أشكال الفئوية كافة، وعلى اقتصاد ريعي في قبضة النخب الحاكمة التي تحرم النقد والمساءلة. وكيف يمكن أن تقوم الديموقراطية في أقطار عربية لا تزال تحت الاحتلال؟ وكيف يمكن تبنّي مفهوم الدولة الذي يدل في الغرب على شيء ثابت، بينما يدل عندنا على شيء متحرك، وليس في تراثنا سوى نظريات مركبة ومعقدة حول السلطة والأحكام السلطانية؟ إزاء هذا الإشكال التاريخي يطرح حافظ تحديث مفاهيم الديموقراطية والدولة والنظام الاقتصادي بالرجوع الى الإرث المعرفي العربي بدل اعتماد المنظومة الفلسفية الغربية للدخول في التنوير والحداثة والنهضة. من هنا، رأى حافظ أنه لا بد من «بلورة منظومة معرفية عربية منفصلة عن المنظومة المعرفية الغربية»، تبدأ بقراءة نقدية لكل المفاهيم التي كونتها تلك المنظومة، وإخضاعها لمعايير متسقة مع منظومة القيم المنبعثة من الواقع والتراث.
على الضد من حافظ رأى ابراهيم العيسوي أن دعوة القطيعة مع المنظومة المعرفية الغربية هي دعوة غير علمية، فضلاً عن أنها تجافي فضيلة الانفتاح العقلي، والأخطر أنها تجاهلت الجهد الكبير الذي بذله من كتبوا وثيقة المشروع للخروج بما يناسب الأوضاع العربية من مفاهيم وقيم وأهداف. وقد حذر هؤلاء من التقليد الثقافي الرث للغرب، وتسوّل أجوبة ثقافية غربية على معضلات مجتمعاتنا من دون وعي الفارق في البنى والتاريخ. وفي رأي العيسوي أن الديموقراطية لا تُختزل في عمليات الترشيح والانتخاب كما يبدو من تعليق حافظ، إذ انها تتشكل من منظومة كبيرة من المبادئ والحقوق والحريات، على رأسها حرية الرأي والاعتقاد والحق في المساواة وتكافؤ الفرص.
أما عبد الاله بلقزيز فنبّه الى أن البلدان العربية تزدحم بظواهر الانحطاط، من الاحتلال إلى التجزئة إلى التبعية، ناهيك عن الإخفاقات التنموية والفوارق الطبقية والفساد المستشري وضمور قاعدة النخبة الحاكمة والعداء على الحقوق المدنية والسياسية. ولا دواء لهذا الانحطاط إلا نهضة شاملة تلحظ المشكلات وتعيّن الأجوبة، تطرح الوحدة في مواجهة التجزئة، والتنمية المستقلة في مواجهة التبعية، والعدالة في مواجهة اختلال الثروة، والثورة الثقافية في مواجهة التعصب والتبعية الثقافية، والتجدد الحضاري في مواجهة الانكفائية والتشرنق، وصولاً إلى بناء خطاب ثقافي نهضوي عربي جديد، تركيبي وتاريخي يجمع هذه المطالب والقيم والأهداف من دون مقايضات بينها. فهي جميعها مطالب تاريخية لا سبيل الى النهضة والتقدم من دون تحقيقها.
في المحصلة، نرى أن أبحاث الكتاب ونقاشاته للمشروع النهضوي العربي تمثل إثراء للبحث في الإخفاق الحضاري العربي الراهن واستشرافاً للرؤى الآيلة إلى نهضة عربية جديدة، في وقت يبدو فيه الزمن العربي كما لو أنه يجري ضد التاريخ. إلا أن ذلك لا يعفينا من تسجيل بعض الملاحظات والتحفظات:
أ ـ ألقى الباحثون وقبلهم الذين أعدوا «المشروع النهضوي العربي» مسؤولية تنفيذ مبادئه وأطروحاته الجذرية على المثقفين لأن ذلك من عمل الثقافة لا من عمل السياسة، وفق بلقزيز، الذي أنحى باللائمة على المثقفين العرب الذين لم يبذلوا الكثير في هذا الباب، من دون الأخذ في الاعتبار ما يمكن أن يؤدي هؤلاء في ظل أمية عربية كاسحة، ومع ارتهان المثقف للسلطة السياسية والحصار المفروض عليه من قبل الأصوليات الايديولوجية. كما أن إيكال دور أساسي الى أجهزة الإعلام يتجاهل خضوع هذه الأجهزة للساسة والمتمولين.
ب ـ القول إن هموم المشروع النهضوي هي هموم للجميع، وانه من المفترض أن يكون القاسم المشترك بين الأحزاب القومية، لا يأخذ في الاعتبار التناقضات الايديولوجية الجذرية إن بين الأحزاب أو بين الشرائح الاجتماعية، بانتماءاتها السياسية والطائفية والإثنية.
ج ـ إن تجاوز المنظومة المعرفية الغربية لا يمكن أن يتم باستعادة المنظومية التراثية، مهما تكن هذه من العراقة والثراء، وأياً تكن الشوائب التي ميزت المنظومة المعرفية الغربية، فالتقدم لا يكون بالارتكاس إلى الوراء.
د ـ ليس صحيحاً ولا واقعياً القول بتقليد مثقفينا للغرب من دون مراجعة، فمنذ أواسط القرن التاسع عشر نبه المثقفون العرب إلى ما في الحضارة الغربية من خلل، وتحفّظوا إزاءه مع إعجابهم بإنجازاتها وإبداعاتها العظيمة.
] مجموعة باحثين «قراءات في المشروع النهضوي العربي» مركز دراسات الوحدة العربية 2016، 208 صفحات.
السفير