نـهــــايـة عـصــــر الأحــــــــزاب؟
فاروق يوسف
المعارضة السياسية في العالم العربي هي الأخرى استيقظت مذهولة على وقع ثورة الشباب. أيّ مفارقة تلك؟ ترى أين نُسجت خيوط المؤامرة؟ أفي مكان خفي بعيداً من آذان المتنصتين أم على صفحات هواء افتراضي كما يقال؟ الغرب تردد كثيراً قبل أن يعلن خضوعه للواقع العربي الجديد وابتهاجه بالتحولات التي لم تسرّه حقاً. الواقع الذي صار لحظة معيشة تحت الشمس، والتحولات التي يبدو أنها لن تستثني جزءاً من مخلّفات النظام السياسي القديم من عصفها، يمثلان اليوم طرفي التحدي التي تعيشه كل القوى المتناقضة.
علينا أن نعترف أولاً: إن شيئاً ما، إعجازياً، يقع الآن في البلدان العربية. عام 1917 انتصرت الثورة الروسية، وفي 1979 استُقبل الخميني في طهران باعتباره نجم ثورة شعبية رعاها السوق. ما بين الحدثين كان هناك زحفان ثوريان كبيران: ماو بمسيرة الألف ميل الصينية، والكوبي فيدل كاسترو نازلا من الجبال إلى العاصمة هافانا. أما ما تبقّى فتاريخ من المجازر الجماعية: كوريا، فيتنام، فلسطين، الجزائر، رواندا، لبنان، تشيلي، كمبوديا، السلفادور، أفغانستان، البوسنة والعراق. هنا وهناك كان القتلى يتبادلون المواقع بأريحية وتساؤل مرير. غير أن اللافت أن القتلة كانوا قد تعلموا الكثير مما فعلوه، فيما أظهر الضحايا جهلاً كبيراً في محاولتهم الافلات من العقاب الجماعي. ما قرره المستعمرون القدامى بحسب ما تعلموه: ما من فيتنام ثانية، من جهة ما تمثله من رمزية تشير إلى المقاومة ومن ثم الاحباط الاستعماري. وما من ثورة يشقّ شعب ما من خلالها عصا الطاعة. الجريمة ذهبت إلى التاريخ، غير أن التاريخ هو الآخر ينبغي أن يكون مهذّباً. لقد أحكمت الشركات الكبرى سيطرتها على القرار السياسي في العالم منذ نهاية الحرب الباردة.
الحديقة الخلفية
شهد العقد الأخير من القرن العشرين بداية تحرر عدد من دول اميركا اللاتينية من قبضة الشركات الأميركية. كان مصطلح جمهوريات الموز بغيضاً ومعيباً. بهدوء، صعد زعماء يساريون، يناوئون السياسة الاميركية إلى الرئاسة من طريق الانتخابات في عدد من تلك الدول. لم تعد الظروف تسمح بتكرار تجربة تشيلي الدموية. كانت أميركا مقيّدة، فيما انبعث سلفادور الليندي من قبره باعتباره نموذجاً لقائد مثالي ممكن، وما كان على أميركا سوى أن تغض الطرف عن هزيمة جنرلاتها الذين صار بيونشيه يمثّل عارهم المقبوض عليه في مطار لندن بتهمة الإبادة الجماعية. كان على أميركا أن تبحث عن حديقة خلفية أخرى. لم تذهب يدها بعيداً. كانت الدول العربية المحيطة بإسرائيل جاهزة، حكّاماً وشعوباً. من وجهة نظر اميركا (الغرب كله إلى حد ما) فإن شعوب تلك المنطقة قد استُعبدت وأهينت واضطُهدت ودُجّنت وأُخضعت بما لا يجعل مجالا للشك في أنها لن تقبل على مغامرة، تعرف أن عواقبها لن تكون حميدة. لقد صار الحكّام في تلك المنطقة سادة القوم وأئمتهم وملوكهم وسرّ وجودهم ورحيق عاطفتهم السرية وأوثانهم إلى الأبد.
الصديق العدوّ
كانت أميركا إلى وقت قريب مرتاحة، حتى في خلافاتها مع الزعماء العرب. ولم يعد سرّاً أن شعار “العداء لأميركاً، لم يكن ليلحق في نتائجه الواقعية (اقتصاديا على الأقل) أي ضرر يذكر بأميركا. لذلك لم تغيّر سياساتها المعادية للعرب، بالرغم من الصداقة العميقة التي تربطها بشيوخ النفط والاتفاقات الاستراتيجية التي وقّعتها مع عدد من البلدان العربية. كان أمن اسرائيل هو الفقرة الاهم في كل حديث أميركي، ما يعني بشكل صريح إنكاراً لكل حق فلسطيني في الارض كما في تقرير المصير. هل كان صدام حسين عقبة حقيقية في هذه الطريق الملساء بحيث تمت ازاحته بأسلوب لم يكترث بالقانون الدولي والشرعية الدولية؟ في المقابل اعلن القذافي توبته وسلّم كل ما لديه من ألعاب نارية، بل دفع رشى بالمليارات من أجل أن يكون مرضياً عليه. لم يكن لدى سوريا ما تقدّمه غير الصمت على مرتفعات الجولان. لقد حلّت أميركا في خيال الأفراد مثلما في خيال الحكومات باعتبارها العدو الذي ما من صداقته بدّ. صار العالم العربي اميركيا، بغض النظر عن توجهات الحكم فيه. ربما نجازف في القول إن السياسة الاميركية كانت مرتاحة أكثر للأنظمة الثورية. لان تلك الانظمة كانت أكثر امعانا في اذلال شعوبها والهائها بالحرمان المعيشي عن التفكير في السبل التي تحفظ لها كرامتها واستقلالها وحريتها. لم تكن مصر سعيدة في ظل حكم جمال عبد الناصر ولا مَن تبعه، ولم يكن بومدين رؤوفاً بالعباد. حافظ الاسد من جهته كان قاسياً، فيما كان صدام حسين بمثابة وحش، والقذافي اختصر الشعب الليبي في قصاصة من كتابه الأخضر. لقد كانوا حكّاماً نموذجيين لإنتاج شعوب مضاعة.
جمهوريات للوراثة
خلت تلك البلاد من أي معارضة حقيقية تنفيذاً لقوانين الطوارئ، وهذا ما سهّل للنظام القائم مهمة استنساخ نفسه مع كل ولادة جديدة. ناهيك بعدوى مبدأ التوريث الذي وجد في ما حدث في سوريا نموذجاً مشجعاً له، وخصوصاً ان ذلك النموذج كان قد حظي بمباركة ملحوظة من الغرب. لذلك لم يكن لدى حسنى مبارك ما يخشاه من أن يعلن أن ابنه مؤهل للخلافة وليست الفكرة غريبة على علي عبد الله صالح وهو مرشح قبيلة حاشد الأقوى. لقد قضى الأخير في الجنوب على الشيوعيين الذين قضى بعضهم على البعض الآخر أيضا، وصارت وحدة اليمن بسببه ميثاق عبودية. اما القذافي فإن سيف الاسلام، ابنه، كان يلتقي زعماء الحكومات الاوروبية علانية. ماذا عن أحوال المعارضة؟ لأن المعارضة المتمردة والنافرة باستقلالها كانت أقلية فقد خبا صوتها. اما المعارضة الحزبية فتشتتت أنواعا، بعضها ارتبط بأجهزة النظام كما هي حال الاحزاب الشيوعية، وبعضها الآخر صار ملحقا بأجهزة المخابرات الايرانية مثلما هي حال الاحزاب الدينية. هكذا يمكننا القول إننا لم نكن نملك حياة حزبية حقيقية. كانت الاحزاب، حتى وهي معارضة، أدوات ملوّثة ومختومة القرار، ولم تكن تصلح لأن تكون حاضنة لتبنّي أفكار مناهضة لواقع ينبغي تغييره.
معارضة ملفقة
كانت أحزاب المعارضة عبارة عن جماعات عقائدية مغلقة، قبائل صغيرة، عوائل تبغي الاستيلاء على الحكم من طريق الغفلة أو من خلال الاستعانة بالآخرين. وهذا ما لم ينجح فيه أي حزب معارض. لذلك فقد اختارت قيادات الاحزاب المعارضة أن تكون منفية وتترك شهداءها على الأرض دليلاً على أنها ظلت وفية لمبادئها حتى النهاية. حين احتُلّ العراق عام 2003 تبيّن أن تلك المبادئ يمكن التفريط بها إذا ما سُمح لسكرتير اللجنة المركزية في الحزب الشيوعي بأن يكون عضواً في مجلس الحكم الذي أسسته سلطة الاحتلال. كان الخلاف إذاً على مَن يحكم، لا على طريقة الحكم. وبالرغم من ان الشيوعيين في سوريا كانوا دائماً جزءاً من نسيج الحكم هناك، غير أن الشيوعيين في العراق كانوا المثل الأسوأ. اما بالنسبة الى الأحزاب الدينية في العراق فلأنها لا تعرف في ادبياتها معنى واضحاً للوطن، فقد كانت معالجاتها لمسألة الاحتلال مختلفة. هي ذي قوة عالمية تسهّل لنا الاستيلاء على السلطة. لن نقاومها بالجغرافيا. التاريخ سيقاومها وحده. من خلالها لن ننتج نظاماً حياً، لكن ما يهمّنا أن الموتى لن يستيقظوا، وسيبقون تحت الأرض مقدّسين. فلسفة نفعية ستقف أمامها أميركا إجلالاً. لقد تفوقت ألاحزاب الشيعية على “الإخوان المسلمين” في مجال النفاق السياسي. أليس مفاجئاً أن يقال إن أميركا هي صديقة الشيعة في الوطن العربي؟ في العراق صديق، وفي البحرين ولبنان عدوّ. يا للمفارقة!
وداعاً للنظام السياسي
كما المعارضة السياسية العربية، فإن اميركا قد فُجعت بثورتي تونس ومصر. هما ثورتا شعب نقي من أي أصولية. ما من حزب وما من عقيدة سياسية وما من طائفة وما من عرق وما من طبقة. الديموقراطية وهي تساوي بين المواطنين، لا تقول بذلك. لسان أميركا (الغرب من حولها) كان يقول: عليكم أن تكونوا مللاً ونحلاً لكي يسهل التفريق بينكم، ويسهل أيضاً حكمكم وتمثيلكم من خلال المعارضة. فجأةً، الشعب كله. ما معنى الشعب هنا؟ لو قلنا الشعب اللبناني مثلاً فسيكون قصدنا غامضاً وسيظهر المفهوم وقد أفسده الدهر بالطائفية. لكن الشعب هذه المرة كان كتلة لا تُرى تفاصيلها من الخارج. لقد استجاب ذلك الشعب لرؤية موحدة (هذا ما يحتاجه العراقيون واللبنانيون)، رؤية تقول بنهاية عصر تكون فيه للنظام السياسي الكلمة الفصل بين حياة يمكن أن نعيشها على الأرض كباقي البشر وخديعة تبتلعنا مثل المتاهة إلى الأبد. لقد قضى الشباب في مصر وتونس (سيكون ذلك مصيراً مشتركاً لكل الشعوب العربية) على مفهوم النظام السياسي ليعيدوا الأمور إلى نصابها الواقعي: هناك كيان اسمه الدولة. وهناك حكومة تدير شؤون تلك الدولة. وما من حاجة لشيء اسمه نظام سياسي. سأل المذيع شاباً مصرياً: ماذا تفعلون إذا لم تنفّذ الحكومة مطالبكم؟ قال: ميدان التحرير موجود. في الوقت نفسه كان هناك من يهدم النصب التذكاري في دوّار اللؤلوة بالبحرين ويمحو الدوّار نفسه
النهار