صفحات الرأي

نقاش اليسار والتغيير والصراع في سوريا


علاء المولى

توحي التطورات الجارية في المنطقة العربية منذ اندلاع انتفاضة الشعوب العربية لأسباب سياسية واجتماعية، قبل أن تستعر الجهود لاختطافها واحتوائها أو تحويلها عن مسارها، بأننا ذاهبون إلى عصر عربي جديد، لا تزال سماته في طور التبلور. ولعل وصول المشروع القومي بصيغته البورجوازية الصغيرة ـ العسكرية إلى مشارف نهاياته في سوريا بعد كل من مصر وليبيا وتونس واليمن، هو إحدى أبرز النتائج التي جرى تحقيقها في مجرى التطورات المذكورة.

وبينما يتمدد الإسلاميون لوراثة السلطة من «القوميين» استناداً إلى دعم غير مسبوق، توفره جبهة ليبرالية ـ رجعية ـ خليجية ـ غربية، ينقسم اليساريون بين من يهوّل من خطر هذه السيطرة الإسلامية، ومن يراها آفلة في وقت قريب، بسبب ظهورها زمن الثورة التي لن تتوقف، حتى تحقيق مطالبها، التي يعجز الإسلاميون عن تلبيتها.

يقود هذا الانقسام اليساري بالضرورة إلى انقسام حول الموقف من الصراع الجاري في سوريا، حيث يقف اليسار العربي أمام تحد حقيقي وواقعي، لاختبار مقولاته المتعلقة بطبيعة الصراع ومستوياته وأولوياته وآفاق تطويره الممكنة.

النقاش الدائر في صلب الموضوع هذا، تعبيراً عن الانقسام المذكور، ينطلق من فرضية لا بأس في وجاهتها تضع اليسار العربي، غير التقليدي، كخيار جدي لمستقبل تطور المنطقة. هذا النقاش هو ضرورة طبيعية ومنطقية لا تحتمل تدخلا سلبيا كمقالة الأمين العام للحزب الشيوعي اللبناني خالد حدادة («السفير» ـ عدد السبت 4ـ8ـ2012) الذي تجاهل بعلو لا يتناسب وحجم الحزب ودوره الحاليين، أصحاب الآراء التي يعتقد أنه يناقشها، خصوصا أننا نتحدث عن فواز طرابلسي وناهض حتر، لا أقل!

فالمتوقع من القيادي الحزبي، هو غير المتوقع من الكاتب اليساري أو المثقف الماركسي، فلكل حقله ومسؤولياته وواجباته ودوره ووظيفته. ففي حين أنه من السهل القول بأن «الحزب» اليساري العربي مأزوم كما يقر حدادة، ليس سهلا القول ان «الفكر» اليساري العربي مأزوم بالمقدار نفسه، هو الآخر. فالمجال الممارسي للحزب أكثر وضوحا منه للمثقف، وبالتالي فإن إمكانية القياس هي أعلى بالنسبة للحزب.

الأفكار المنتجة متناثرة وهي في معظم الحالات غير متصلة وقليلة القيمة التراكمية بالتالي، وهذه مسؤولية الحزب اليساري الذي، بسبب أزمته نفسها، استكان ورضخ، عمليا، لمعطيات الواقع، فنبذ الفكر في حركته لتغيير الواقع، وربض في مواقع البيروقراطية الطاردة لإمكانيات التطور. الاعتراف العميق بأزمة الحزب يجب أن يقود إلى مداخلة مختلفة، تبدأ بالتقدير الجدي للنقاش اليساري، ولا تهدف إلى تقييمه، بل إلى الانخراط فيه من موقع المسؤولية الحزبية والتجربة الحزبية المحققة والإسهام الحزبي الملموس، حتى لو ارتدت المداخلة شكلا فكريا خالصا.

الجانب «الحزبي» في مقالة حدادة محصور بفكرتين، غير جديدتين من جهة، وغير منتجتين من جهة أخرى: الأولى «إشارة» إلى أزمة اليسار العربي، أما الثانية «فالدعوة» إلى مشروع يضع الطبقة العاملة في قيادة مشروعها للتحرر الوطني في مواجهة الإمبريالية والبورجوازية التابعة. بعبارة أخرى، فإن الحزب «المستغرق في أزمته» يدعو إلى مشروع «تقوده» الطبقة العاملة. ولكن ماذا فعل ويفعل حدادة لإخراج الحزب الشيوعي من أزمته، ومتى سيخرج؟ وما هو مشروع الحزب من أجل مشروع «تقوده» الطبقة العاملة؟ لا يجد حدادة داعيا للإفصاح، بينما يسترسل في نقد الآخرين الذين تميزوا ـ على الأقل ـ بأن أفصحوا، بينما هو لم يفعل.

أما الجانب الفكري ـ السياسي في مقالة حدادة، إذا أهملنا بعض التعابير غير اللائقة والنفس الاستعلائي الثقيل فيها، فهو في حقيقة الأمر، يثير أكثر من علامة استفهام، حول جوهر نظرته إلى دور الحزب الشيوعي اللبناني في سياق تصوره لموقف اليسار العربي ودوره، خصوصا في الأزمة السورية. فحسب المقالة، على القوى اليسارية أن تنأى بنفسها عن «منطقين» يتصارعان حاليا، «منطق» يهمل الوجه الاقتصادي ـ الاجتماعي والسياسي للأزمة و«يجمد» فعل التناقض مع البورجوازية حول هذين الموضوعين تحت «ستار» المواجهة التاريخية مع الامبريالية، و«منطق» يهمل الجوانب الخارجية للأزمة ويجعل أسبابها الداخلية هي الأساس مبرراً، بالتالي، التبعية للقوى الخارجية.

ويرى حدادة أن هذين المنطقين هما حقيقة منطق واحد تكمن خطورته «في ضرب استقلالية الطبقة العاملة في إداراتها للصراع الطبقي بشكله السياسي».

بيت القصيد في تحليل حدادة يتمظهر في خاتمة مقالته حيث يصف المشروع اليساري الذي «يدعو» إليه بأنه «مشروع تستطيع معه الطبقة العاملة أن تحدد مستوى التناقضات ودرجتها، وبالتالي تختار هي ولا يفرض عليها التقاطعات والتحالفات التي تخدم مشروعها وليس مشروع الآخر». ان هذه النظرة للصراع الدائر ولموقع اليسار منه أو فيه، وبالرغم من مفرداتها «اليسارية» هي في حقيقة الأمر يمينية حتى النخاع من حيث إنها تدعو عمليا إلى الحياد في الصراع الدائر تحت «ستار» الاستقلالية. فكيف يمكن تحييد الطبقة العاملة عن صراع تشكل هي وقوده وضحيته؟ ثم ماذا يعني عمليا، ان الطبقة العاملة هي من يحدد مستوى التناقضات و«تختار» التقاطعات والتحالفات كأن هناك، من خارجها، من يفرض عليها ما لا تريد، كالقاصر مثلا؟ وماذا ينفع نقد «الوطنيين» و«الاجتماعيين» دون تقديم أطروحة وطنية اجتماعية تعكس فعليا العلاقة الجدلية بين مستويات الصراع الدائر؟ وما المؤدى العملي لاشتراط قيادة الطبقة العاملة للصراع ـ الدائر هنا والآن ـ في الوقت الذي نقر فيه بأزمة اليسار، سوى إخراج القوى السياسية الممثلة للطبقة العاملة من الصراع؟ إنه المنطق نفسه الذي جرّبه الحزب الشيوعي اللبناني في عهد حدادة والقاضي بالوقوف بين 8 و14 آذار والاكتفاء بذلك، وهو منطق عمّق أزمة الحزب ووسّع قاعدة خسائره لجمهوره وأفقده أي دور على الساحة اللبنانية بدلالة عدم قدرته على التأثير، مثلا، في صراع طبقي واضح خاضه عمال الكهرباء طيلة ثلاثة أشهر، وبقي أسير انقسام 8 و14 آذار؟

لا يمكن مثلَ هذا الانحراف اليميني أن يشكل مداخلة يسارية، ولذلك أهملها أصلا اليساريون الجادون، غير أن مسؤوليتي الحزبية، فرضت تدخلي للقول إن ساحة تدخل الحزب الشيوعي اللبناني ـ كما أي قوة يسارية أخرى ـ بالنقاش والصراع تبدأ من داخله ومن حوله، حيث يجب أن ينطلق النقاش الحر من أجل وضعه على سكة الخروج من أزمته ابتداء كشرط لبلورة مداخلة يسارية جادة وواقعية. فلقد بات الخروج من الأزمة وبلورة رؤية يسارية جديدة، عملية واحدة شرطها الموضوعي غير القابل للمراجعة هو التخلص من سيطرة البيروقراطية على القيادة السياسية لأنها العائق أمام أي تطور ممكن.

ان الحزب الشيوعي اللبناني هو الذي عجز ـ حتى الآن ـ عن بلورة مشروعه اللبناني اولا، بشروط الترابط بين مستويات الصراع في بلادنا، وعن تطوير موقفه من «الثورة» السورية و«الحرب» على سوريا، مكتفيا بنوع من «النأي بالنفس» على الطريقة الميقاتية، يتطور على جرعات بطيئة ومتباعدة تفقد أي موقف أهميته وجدواه معا. هذا هو التعطيل ولا يطلب اليمين أكثر من ذلك.

كاتب سياسي ـ لبنان

السفير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى